تجارب إنسانية
غزل حسين المصطفى:
إلى الأنثى التي لا تحمل من معنى اسمها شيئاً، تُطلق رصاصها دون حساب، كنتُ يومذاك بحالة مزاجية سيئة، شيء ما كان يعتصر قلبي، قلت لصديقتي إنّني أبتلع دموعي وطعمها يكويني.
دخلتُ مكتبها، وبعد التّحية تحوّلتُ من زائرٍ بغية السؤال إلى ضحية تنزف دموعها كطفل سُلب من حضن أمه.
إليها حيث تلتظي نيرانها، كيف لم تقرئي محيّاي كما قرأته تلك البصارة وقالت لي: وجهك سمح، يُريح الناظر؟!
كيف لم تلحظي أنني شاحبة الروح ذلك الصباح وصوتي يئن؟!
أو ربما الأجدر بي أن أسأل بصارتي وفنجان قهوتي كيف صاغوا عني الحكاية وكنت عندهم اللطيفة الرقيقة قُرة الروح كما لو أنني نسمة صيف؟!
إلى كلّ من مرّ بي يوماً وخلقت في ذاكرته صورة غزل التي أحب وأريد، صورة غزل التي أراها في انعكاس بريق عيون الأطفال، أقول لتلك الأنثى القاسية إنّني لا أستحقّ رصاصتها تلك.
عدتُ من مكتبها أسأل نفسي: هل من الممكن أن تكون هذه الإنسانة على عكس الصورة التي رأيت؟
فغالباً الانطباعات الأولى تكون مزيّفة لا تشبه حقيقةً ما نحن عليه.
أذكر تماماً كيف كان لي صديقة يوماً ما، قاسمتها أصعب لحظاتها وأجملها، كنت أرى في محياها الوجه البشري للملائكة، قضينا سنوات صداقتنا نقتسم الحكايات هاتفياً ونعود لنشارك بها الطريق حين نمشي من المنزل إلى المدرسة ذهاباً وإياباً.
صنعنا الحلوى وكتبنا الوظائف المدرسيّة، ضفرت شعرها وهدهدنا لدُمانا.
اليوم الجامعي الأول كنتُ معها أؤنس قلبها الراجف، وأرشدها حيث الطريق.
ذات صباح وفي غربتها البعيدة صحوت لأجد نفسي غريبةً عنها، مُبعدة كلياً عن فضائها، وأصبحت ضمن قائمة (الحظر) على مواقع التواصل الاجتماعي.
بقيتُ لمدة أتساءل: ما السبب؟ أنظر إلى هديتها التي أعطتني إياها في ذكرى مولدي وأُعيد ترتيب الحقائق والأحاديث علّني أهتدي إلى سبب ما حصل.
منذ مدّة ليست بالبعيدة تبيّنت بعض معالم حياتها الجديدة، وقعدتُ أنسجُ المبررات، وتركتُ لها الباب موارباً لتعود إلى الصلح وتأويل ما حصل بعد كل سنوات القطيعة.
لم تستغل الفرصة، وبقيت على الضفة الثانية، في ذلك اليوم تماماً فتحتُ خزانتي، فوقعت تلك الهدية أرضاً وتناثر زجاجها، حينئذٍ أدركتُ أن كل شيء قد انتهى وانقطعت كلّ الخيوط التي تجمعنا.
كانت هي كما كل الأشخاص الذين قد يمرّون بنا، في بداية الأمر تفوح عطورهم، أو ربما نحن من نختلق لهم تلك الهالة المُعطرة، ونكتشف فيما بعد أننا نحن من تركنا لهم حمانا مباحاً بمسوغ العاطفة والعلاقة الإنسانية، ونتحمّل فيما بعد وزر ما اقترفت عواطفنا.
قد يكون الأمر بغير هذا الوصف والتصور، والحياة ليست بهذا التعقيد لاسيما العلاقات الإنسانية، لكن هذا ما قد تُحدثه الحوادث فينا، فنشكَّ ونبتعد ونرسم الحدود، بناءً على تجارب قاسية لا تُعمَّم، لكنها صنعت جرحاً ودرساً.