ألقاب فاسدة منتهية الصلاحية

إيمان أحمد ونوس:
في غمرة الانفتاح الواسع على تقنيات تكنولوجيا الاتصالات، لاسيما منها منصات التواصل الاجتماعي التي باتت بمتناول الجميع تقريباً، بغضِّ النظر عن الفئة والعمر والمؤهّل الثقافي أو العلمي، في غمرة كل هذا، نلمس ونتلمّس كمّ الأبواب التي شُرّعت فسيحة كي يعرض كل إنسان ويستعرض ما لديه من مواهب وإبداعات قد لا ترقى حقيقة إلى مستوى الإبداع وعلى مختلف المستويات الأدبية والفنية وحتى السياسية والدينية، وعليه بات كل شخص بإمكانه استخدام ما يناسبه من تسميات وألقاب تُرضي بعض النواقص المعرفية والنفسية لديه من جهة، وتُسهّل له خوض مجالات لم تُتِحها له الحياة الواقعية وخارج نطاق إقامته الضيّق، حتى بات الشعراء والأدباء يتناسلون بلا توقّف، مثلما تتناسل شهادات التقدير والجوائز الممنوحة من جهات لا أعتقد أن لها وجوداً سوى في هذا الفضاء الأزرق الواسع.

وقد انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة دورات تُعنى بالطاقة، وأخرى تعمل على التنمية البشرية، وغيرها الكثير ممّا يُعنى بالتجميل والتغذية، وحتى في مجال الطب العربي والصيني وغيرهما من مجالات لم تنجُ من الاستثمار التجاري البعيد عن كل معرفة علمية وأكاديمية صحيحة، رغم أن المشرفين على هذه الأنشطة يُطلقون على أنفسهم لقب خبير، أو استشاري حائز على شهادات من معاهد وجامعات أجنبية تُعرض وبكل فخر وبأختام لا يُقاربها الشكّ من العامة والمهووسين بتلك الأنشطة الذين يُشكلون الصيد الثمين لكل أصحاب هذه المجالات، والمُدهش أكثر أن بعض أصحاب تلك الألقاب قد وصل إلى مكانة رسمية غير قليلة في نطاق عمل المؤسسات والوزارات المعنية بهذا الشأن دون التدقيق بصحة ما يحمله أولئك الخبراء من شهادات ذات مصدر أكاديمي أجنبي، ذلك أنه تمّ تسليط الضوء عليهم من قبل المؤسسات الإعلامية بكل اتجاهاتها، فقط لأنهم على علاقة وثيقة ببعض المُتنفذين في هذه المؤسسات، أو بالذين لا همّ لهم سوى ما يكسبونه مادياً من أولئك المُدّعين المُزيّفين.

كما لا يُمكننا إغفال تداعيات الأحداث الكارثية التي اجتاحت منطقتنا العربية على مدار عقد من الزمن، وما زالت تداعياتها مستمرة، وصخبها مشتعل على كل الصُّعُد المادية والمعنوية، كما السياسية والاقتصادية والعسكرية، بما دفع بالعديد من الأصوات والشخصيات المغمورة منها والمشهورة إلى خوض غمار النقد والتحليل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني وحتى العسكري، بتسهيل من منصّات وقنوات ومحطّات إعلامية لكلٍّ منها أهدافها ومراميها بتنا جميعاً نعرفها ونُدرك ما تسعى إليه من نشر أفكار وسياسات تُلبي مصالح ومطامح أصحابها. فقد أفسحت تلك المحطّات المجال واسعاً أمام أشخاص لم يكونوا قبل ذلك مُؤهلين للمهام التي أُنيطت بهم كالتحليل السياسي والعسكري وما شابه، وهنا أُطلقت الألقاب التي انتشى بها أصحابها بشكل جعلهم يُصدّقون أنهم مراسلون ومُحللون سياسيون أو عسكريون …الخ، فباتوا بين ليلة وضُحاها أكاديميين مُزيفين لا يملكون أدنى معرفة وعلم بما ينطقون، فقط يتسارعون لكسب المزيد من المال والشهرة التي لم يحلموا بها يوماً لولا الواقع المُزري والمُفجع الذي فرض نفسه على الجميع.

لا شكّ أن انتشار هذه الظواهر في مجتمعاتنا خاصّة، يعود لأسباب بعضها يتعلّق بالشخص الذي ينتحل صفات وألقاباً غير جدير بها بسبب افتقاره لتقدير الذات الداخلي، فاستبدل به تقديراً وهمياً ومُزيّفاً، وكذلك الأمان المادي الذي استسهل الحصول عليه من ممارسة أعمال تحتاج إلى سنوات من التحصيل العلمي والأكاديمي المُضني. وهناك أسباب تتعلّق بالمجتمع قائمة على بنية نفسية هشّة فرضتها منظومات متوارثة تُعزّز الوهم بكافة أشكاله، إضافة إلى الانصياع اللا إرادي لكل وافد جديد حتى لو كان مُزيّفاً أو غير ضروري ولا مناسب، وذلك بسبب سيادة ثقافة الاستهلاك والاستلاب التي فرضها اقتصاد السوق عبر استخدام الدعاية والإعلان اللذين يُروجان لكل ما ذكرناه أعلاه سواء بالنسبة للقضايا المعرفية والتجميلية والطبية، أو بالنسبة للقضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية. ولكن لا يفوتنا من جانب آخر، أن الحكومات دعّمت كل هذا الواقع بغية إخراج المجتمع بكل شرائحه وأطيافه من ساحة الفعل الحقيقي والوعي والإدراك، إلى ساحات التفاهة والتسلية والاستلاب لقضايا بعيدة تماماً عن الواقع الحقيقي، في الوقت الذي قلّصت فيه حريّة الرأي والنقد الموضوعي الذي سيُجاهر بسطوة القمع والتجهيل والاستبداد، وسيكشف حقيقة تلك الحكومات التي لم تعمل يوماً إلاّ لحساب مصالحها الضيّقة على حساب تطوير الدولة والمجتمع وتقدّمهما.  

العدد 1104 - 24/4/2024