رحلة إلى روحي

غزل حسين المصطفى:

على رغم صغر حجمه، إلاّ أنّه كان أكبر من كفّي حينذاك، أحمر اللون، حملتُه فشعرت وكأني ملكت الكوكب به.

لم أكن أدرك ما قيمة تلك الأرقام المكتوبة على قرص تحكّمه الصغير، إلاّ أنني أدركتُ أنَّ كلّ رقم يأخذني إلى شيء مختلف.

(راديو) نعم، هو ذا، هديتي الجديدة من والدي، معه كنتُ أجد نفسي مستمتعةً جداً، دوّنت على ورقة صغيرة التَّوقيت مع الرَّقم الّذي يشير إليه القرص، لم أكن أدرك أنّه تردّد المحطة، كنتُ أعلم فقط أنه مفتاح الوصول إلى أصوات حملتني معها إلى داخلي، صرتُ أتحسّس الألوان وأرى الحياة بأذني وبطريقتي أنا.

كبرتّ وظلّ (الراديو) رفيقي الأقرب وشغفي، واليوم أتلذَّذُ بنطق كلمة (إذاعة) مُشبعةً الأحرف، لاسيّما الذال اللّثوية فيها.

مع الراديو سكنتُ إلى روحي وجالستها، وأنا ممّن ترهقهم الحياة بضجيجها وكثرة ناسها، لا تُغريني المجالس العامرة بالأحاديث إلاّ نادراً إن حملني الشوق إلى أحدهم.

دائماً ما أقول ومن باب المجاز (هناك أشخاص يعيشون في رأسي ويثرثرون… أريد من النهار ساعةً واحدة أو ربما ساعات أخلو إليهم، أسمعهم وأنظّف فوضاهم).

فأنا، إذا خرجت من منزلي، تنطلق كل جوارحي تُلملم التفاصيل وتجمع الحكايات، وأحياناً تصوغ بنفسها حكايةً خاصة من تتبّع الوجوه واقتفاء المشاعر المختبئة بين الأنفاس والحروف.

قد يستوقفني وجه رجلٍ عجوز، فأقعد لأحلّ لغز أثلام وجهه وعروق يديه.

يُعيد الحوار القائم بين متحابّين جلسا قبالتي في الحافلة ترتيب نفسه وربط المشاعر الباعثة على ذلك، مع التدقيق في غزل العيون الصامتة أو الأصابع المتشابكة.

تسألني في كلّ مرة أصادفُ فيها ضفائر طفلة عن حنيني إلى المدرسة، وعن حكاياتي الطفولية مع زملائي.

والكثير الكثير من التفاصيل التي تستهلك كلّ طاقتي ووقود دماغي، لذلك من الطبيعي جداً أن أُطالب بالسكينة والسكون والانعزال مع نفسي.

أمشّط شعري بهدوء، أقطف عنه كلّ الياسمين الذي علق به خلال النهار وأنا أطوف في شوارع دمشق مشياً.

أمسح على قلبي لينتظم نبضه بعد نهارٍ طويل قطع فيه تذاكر الحب، أو كتب تذكاراً على مكانٍ جديد مرَّ به.

أفتح ذراعيَّ لتعانقني أغنية أم كلثوم فتمسح على رأسي بهدوء، تُرسل في صدري جملةً موسيقيّة تسحب كلّ ثنائي أوكسيد الحياة، وتُبخر أضلعي بأوكسجين الحب والشوق.

أفتح كلّ الرّسائل التي سقطت في جعبتي خلال النَّهار من حديث فُلان وموقف آخر معي.

أبعد كلّ ذلك وغيره ممّا لم أتذكّره وأذكره، هل يبقى لي وقتٌ لفعل شيء آخر؟

وإن بقي، فلديَّ من الأمور ما هو أكثر إغراءً للغوص في تفاصيله من التسكع بين المحال التجارية والسؤال عن الأسعار وآخر صيحات الموضة _ذلك ليس بخطأ_ لكنه لا يعني لي شيئاً.

– وإن لجلسة أقضيها وحدي، أغازل فيها جمال كأس المتة الدافئة وهو يعانق صوت فيروز صباحاً، أحبُّ إليَّ من أفخم الولائم وأضخم المطاعم.

– وطريق أمشيه مع سمّاعاتي وصوت المذياع يتغلغل في جُزيئات أنفاسي أفضل عندي من جلسة أقضيها في تتبّع سهوات البشر والتنمّر عليهم وفضح أسرارهم تحت مسمّى (التسلية).

رغم أن الفضاء الإلكتروني قد استباح وقتنا حقيقةً وبموافقتنا، إذ نُبحر لساعات طويلة ربما في أزرق الفيسبوك، وننشر ثرثرتنا بين المحادثات المختلفة عبر الواتساب، نصنع أغلالنا بأيدينا، نفتح الباب لسارقٍ يسلبنا كل العزلة والهدوء، يسحبنا من يدنا باتجاه كل شيء، نغوص ونغوص، وإنني لأخاف على نفسي يوماً رغم وعيي بالحالة أن أفقد السيطرة يوماً، والعالم بأسره ينسلخ عن هيئته العتيقة إلى شكلٍ جديد مُسبق الصنع والتخطيط.

ويبقى الأمر في بعض المفاصل الحياتية إجباراً وليس خياراً، لذلك ورغم كلّ شيء وبعيداً عن كل الحداثة المجنونة والتطور الرهيب، ظلّ الراديو حتّى الآن شريكي وصديقي الأنقى والأوفى، أسندُ إليه روحي يبلسمها لننطلق من جديد.

العدد 1104 - 24/4/2024