مجرمون… بعباءاتٍ مباحة

إيناس ونوس:

وضعَ البشر أعرافاً وتقاليد لتنظيم العلاقة بين الجنسين منذ الأزل، فكان ما سمّي مُباحاً وما سمّي مُحرّماً، وجاءت الأديان بأشكالها السماوية والأرضية لتؤكّد هذا التنظيم وتلك الأعراف، تمييزاً للإنسان عن باقي المخلوقات على سطح الأرض من جهة، ولبيان أصل النسل البشري من جهة ثانية، وعلى هذا الأساس اتخذت المجتمعات برمتها تلك الأعراف لتجعلها قوانين تحتكم إليها عند اللزوم، وتعمل على ضبط الغريزة الجنسية عند الإنسان.

هذه الغريزة يجب أن تخضع مثلها مثل أيّة غريزة أخرى للضوابط التربوية والنفسية والسلوكية، ولما يفرضه المجتمع من أعراف ومبادئ، ولهذا سُمّي من يخرج عن تلك الأطر بالشّاذ، والشذوذ متنوع الأشكال والألوان، ويغصُّ به أي مجتمع على وجه الأرض، ومن تلك الأشكال التحرّش الجنسي، لما يحمله هذا النمط من خطورة كبيرة، تعاني منها غالبية المجتمعات لاسيما المجتمعات التي تنشأ على الكبت بمختلف صوره.

غير أن الإنسان الشّاذ بهذا المعنى هو الإنسان الذي يعاني ثُلّةً من الاضطرابات النفسية والتربوية والأخلاقية والسلوكية التي تجعله بعيداً كل البعد عن قيم مجتمعه ومنظومته الأخلاقية والمعرفية والسلوكية، وتضعه بموضعٍ لا يُميّز فيه بين المُتاح والمُحرّم، فكل ما يهمّه فقط إشباع غريزته ضارباً بعرض الحائط كل المجتمع بقوانينه وتقاليده وأعرافه، غير آبهٍ لنتائج فعله ذاك سواء على مستواه الشخصي أو على مستوى ضحيته، والأخطر من ذلك أن العديد من الشواذ، وتحديداً في المجتمعات القائمة على تربية الكبت، هم أكثر من يتبجّحون بالقيم المجتمعية والمنظومة الأخلاقية، حاملين لواء الدفاع عنها في العلن، بينما يقومون بما تمليه عليهم شهواتهم ونزواتهم تحت جنح الظلام، مستخدمين شتّى أنواع التهديد والوعيد لضحاياهم إن فكّروا بفضحهم وفضح أفعالهم المشينة التي تندى لها الجباه.

ولا يقتصر التحرّش الجنسي فقط على العلاقة القسرية والمُحرّمة بين الرجل والمرأة، بل يحدث بين أبناء الجنس الواحد، وكثيراً ما بتنا نسمع عن قضايا تُثار في المحاكم عن هذا النوع من التحرّش، لاسيما في المجتمعات الغربية، بينما تعاني المجتمعات الشرقية من التحرّش الجنسي القائم على العنف الموجّه ضدّ المرأة أو الطفل، وكل ذلك لأن هذه المجتمعات تقوم على التبجّح بالأخلاق المرسومة علانيةً بينما تمارس الكذب والنفاق في الخفاء، إضافةً إلى أنها تعتمد التربية القائمة على الكبت الجنسي، وجعل الحديث بهذه الأمور ليس من المحظورات فقط، بل وتصل حدّ التكفير والهجوم الشنيع بأبشع الألفاظ والصفات على من يتجرأ على التفوّه بها ومناقشتها باعتبارها موضوعاً يحتاج للكثير من النقاش، يُضاف إلى كل ما ذُكِر تكاثر العديد ممّن يطلقون على أنفسهم صفة رجال دين وهم أبعد ما يكون عن الدين حينما يتقدّمون بفتاوى هدفها الأول والأخير هو انعدام الأخلاق في المجتمع، كتلك الفتاوى التي ظهرت مؤخّراً وكثُر الحديث عنها في وسائل التواصل الاجتماعي كنكاح المُعاق على سبيل المثال لا الحصر، إضافة للسماح بتحليل هذا الفعل وتحريم ذاك بناء على رؤى خاصة تخدم غايات ومصالح مُحدّدة، وترمي بعرض الحائط ضحاياها واللواتي غالبيتهن من النساء غير القادرات على التفوّه بكلمة خشية الفضيحة، ذلك أن الحق هنا سيتم قلبه وتصبح هي المدانة بعد أن كانت هي الضحية، وما عليها إلا تقبّل الألم والذل والانكسار والخديعة بصمت، خصوصاً حينما يكون المعتدي أباً أو أخاً أو ابناً أو أحد الأقارب، وما يزيد الأمر سوءاً وبشاعةً، أن القوانين في هذه المجتمعات لا تحمي الضحية بشكلٍ كامل، فحين يُجبر القانون ذاك المجرم على الزواج بضحيته درءاً للفضيحة ويسمح له بطلاقها بعد حين، أين العدل في ذلك؟ ومَن من رجال القانون وسادته قادرٌ على ضمان حسن معاملة الجاني لضحيته خلال فترة الزواج المزعومة؟ فكم سمعنا ولا نزال عن قصص نساء وقعن ضحايا التحرّش ثم تحوّلن إلى ضحايا الزواج لاحقاً ومن ثم ضحايا الطلاق، وقاعات المحاكم تشهد على الكثير من تلك القصص.

سبق أن طرحت الدراما السورية في العديد من أعمالها قبل عشر سنوات هذا الموضوع، في محاولةٍ منها لتسليط الضوء على هذا النوع من المشاكل المجتمعية، إضافة لنشاط العديد من مؤسسات المجتمع المدني وقتذاك، بغية الوصول إلى تعديل في تلك القوانين لتتمكّن الضحية من الدفاع عن نفسها بدلاً من أن تبقى مذلولة مُهانة حتى آخر يوم من عمرها، إلاّ أن الحرب الشعواء التي قضت على البلاد أوقفت كل ما كان قد تمّ العمل عليه سابقاً، بل وساهمت للأسف في انتشار مخيف لمظاهر التحرّش بطرق لا يوجد لها وصف حقيقي بحكم بشاعتها وعدم مقدرة المنطق أو أي عقل على تقبّلها، كتحرّش الأب بابنته ثم تحريض أخيها على قتلها بحجّة أنها فاجرة فاسقة… فإلى أين نحن سائرون؟!

العدد 1102 - 03/4/2024