هل الفكر الإسلامي السياسي قادر على ترسيخ قيم الديمقراطية؟

يونس صالح:

يمتد الجدل حول طبيعة النظام السياسي في الإسلام ومقوماته، منذ أمد طويل، إلا أنه أصبح في السنوات الأخيرة من أشد القضايا إلحاحاً وأهمية، فأنظمة الحكم في البلدان العربية والاسلامية أخذت تشهد تغييرات مسّت أساليبها في إدارة الحياة العامة وجوانب من مؤسسات الدولة وتشريعاتها الأساسية.

ولم تكن التغييرات نابعة عن قناعة ذاتية وإيمان مبدئي بالديمقراطية والحرية، بقدر ما كانت استجابة ضرورية لضغوطٍ وتحولات دولية، وكذلك عملاً على احتواء الأزمات الداخلية التي لم يعد بالإمكان مواجهتها بالطرق التقليدية. غير أن هذه الحركية، وتراجع نمط الدولة الحامية وفكرتها، تتزامن ولا تزال مع تطور الحضور السياسي للحركات الإسلامية وتناميها إلى درجة التهديد بقلب موازين القوى في أكثر من بلد. وهذا المعطى المهم بكل تعقيداته وتداعياته زاد في تغذية الصراع الفكري والإيديولوجي والسياسي حول مختلف القضايا والمسائل المرتبطة بالديمقراطية وتنظيم المجتمع ضمن دائرة الفكر الإسلامي. هذا الفكر الذي يشهد أيضاً حركة دؤوبة تحت ضغط الصراع والتجاذب، يلاحق الممارسة السياسية ويحاول تأطيرها وتوجيهها وتأصيلها. ومن بين الأسئلة المنبثقة عن معاينة الأدبيات السياسية الإسلامية المعاصرة وتتبّعها، يدور سؤال حول مدى تحقق المصالحة الفكرية بين الخطاب الإسلامي السائد، والمنظومة الديمقراطية.

يمكن القول إن الفكر الإسلامي المعاصر قد تزايد اهتمامه بقضايا تنظيم شؤون الدولة والمشاركة السياسية في السنوات الماضية القريبة أكثر من أي وقت مضى، وقد اتضح ذلك على إثر قيام دولة في إيران تستند إلى مرجعية إسلامية. لقد تضاعف الحديث منذ ذلك التاريخ عن (ماهية الدولة الإسلامية)، هل هي ثيوقراطية أم مدنية؟ وهل هي قائمة على التعددية أم أحادية وشمولية؟ داعمة للحريات والحقوق الفردية والجماعية أم واضعة حدوداً وضوابط لها؟ وماهي العلاقة بين السلطات الثلاث، وإلى أيّ حدّ تتسع صلاحيات الأمة في اختيار حكامها وممثليها؟

وبما أن أوائل القرن الحادي والعشرين قد شهد انتصاراً عريضاً للديمقراطيات الليبرالية، بعد أن فشلت الأنظمة القائمة على الحزب الواحد، مما أدى غلى إضفاء قيمة عليا ومقدسة على الحريات، ودفع بالجميع إلى تأكيد مخاطر الاستبداد. وبناء عليه أصبح النموذج الديمقراطي في الحكم مقياساً تعرض عليه شرعية الأنظمة وصلاح الإيديولوجيات.

من هنا تواصلت في السنوات الأخيرة تلك الجهود لإدخال جملة من (التعديلات والتنقيحات) على الفكر السياسي الإسلامي حتى يتلاءم مع الحاجات الجديدة التي فرضتها المتغيرات الثقافية والسياسية والاقتصادية.

وفي هذا السياق عاد التأكيد على المسائل التالية:

* إعلان الاستعداد لعدم الانفراد في إدارة شؤون الدولة.

* حق الاختلاف وآدابه وضوابطه.

* إدراج خطاب حقوق الإنسان ضمن المنظومة الشرعية الإسلامية.

* إبراز سيادة القانون، أي (الشريعة) في الممارسة اليومية للدولة الإسلامية.

* تثبيت مبدأ الفصل بين السلطات حسب الشريعة.

* إضفاء الشرعية على حق الانتخاب كوسيلة لاختيار الحاكم.

* المطالبة بحق التعبير والدعوة والتنظيم السياسي وإدراج ذلك ضمن مهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وتزامنت هذه التأكيدات مع انخراط عديد الحركات الاسلامية في تجارب تعددية وبرلمانية بشكل مباشر أو غير مباشر، مثلما حصل في تونس والكويت واليمن والأردن وتركيا وباكستان.

ولكن مع الأهمية النسبية للتعديلات التي أدخلت على الخطاب السياسي الإسلامي، وكذلك الدلالة الرمزية لقبول عدد من الحركات مبدأ المشاركة في انتخابات تشريعية، وهي تجارب لم تخضع بعد للدراسة والتقييم، لا يزال الفكر السياسي الإسلامي في عمومه متردداً في حسم العديد من القضايا الأساسية، سواء المتعلقة بطبيعة الدولة أو بجوانب من الحريات العامة والحقوق الأساسية. وهو ما جعل الخطاب نفسه يكتنفه الغموض والكثير من النقد والتساؤل.

ومما زاد في إثارة الجدل حول مصداقية الخطاب، تلك التصريحات المتباينة التي أطلقها ولا يزال يطلقها رموزه في شأن الموقف من الديمقراطية كنظام حكم. والكيفية التي أدار بها الإسلاميون الشؤون العامة عندما أصبحوا في رأس السلطة في عدد من البلدان الإسلامية، والتي تتعارض في خياراتها مع المقاييس التي تتضمنها المواثيق الدولية.

من القضايا الأساسية التي لا تزال معلّقة نضرب بعض الأمثلة:

* يستمر النقاش منذ حوالي نصف قرن حول مسألة قد تبدو شكلية لغوية، إلا أنها تخفي تباينات جوهرية، كالخلاف حول مشروعية استعمال مصطلح الديمقراطية؟ وهل هي تتطابق مع مصطلح الشورى من حيث الوظيفة والدلالة؟ هناك فريق متمسك برفض الديمقراطية كمصطلح ومفهوم. وهناك فريق آخر اتجه نحو التخفيف من التعارض بين مصطلحي الشورى والديمقراطية، واعتبرهما يشتركان في العديد من المبادئ والأصول. لكن إن كان البعض من هؤلاء قد أصبح يستعمل اللفظتين وكأنهما مترادفتان، فهناك ضمن الفريق نفسه من يقبل بالديمقراطية مع ملئها بضوابط وثوابت الشريعة الاسلامية، إذ يجري الحديث عن (الديمقراطية الإسلامية) وعن (الشورى_ قراطية).

إن استمرار النقاش حول المصطلحات يعود فيما يبدو إلى:

– أن كل مصطلح ولد في بيئة تاريخية ومعرفية وسياسية مختلفة.

– لا يزال مصطلح الشورى لم يتحرر كلياً من الإطار المعرفي الكلاسيكي برغم أن الشورى حتى في أبسط تعريفاتها لم تمارس في التاريخ السياسي الإسلامي إلا في حالات نادرة.

– نزوع الفكر السياسي الإسلامي إلى التوحيد بين العقائدي والسياسي، مما يثير الكثير من التخبطات والمخاوف عندما يراد إدخال جرعة من الليبرالية السياسية في المنظومة الاسلامية.

• المثال الثاني يتعلق بماهية (الدولة الإسلامية) التي يعمل الإسلاميون لإقامتها. وتكاد تتفق أدبيات مختلف الأطراف على أنها الدولة التي تقوم بتنفيذ الشريعة الإسلامية.

المثال الثالث، يتعلق بحق الاختلاف وكيفية ممارسته، هنا تتدخل الآليات العقائدية والفقهية لتضع ضوابط لهذه المسألة.

إن الأمثلة الثلاثة التي جرى استعراضها هنا، كان الغرض منها إبراز حالة التردد التي تتسم بها مسيرة الفكر السياسي الاسلامي المعاصر. والسؤال الذي نطرحه هنا هو: هل يمكن أن يساهم الفكر الإسلامي في إنضاج الحركة الديمقراطية المتعثرة في عدد واسع من البلدان العربية والإسلامية؟ السؤال مفتوح ومطروح على الجميع. وللمساهمة في توسيع الرؤية وإنضاج النقاش يمكن لفت النظر إلى الجوانب التالية:

* لا يتطور الفكر إلا إذا انطلق من الواقع وفككه وأعاد تأسيسه على قواعد وأصول ترتقي به نحو الأفضل. إن فكراً قائماً على الفرضيات أو سجين أدبيات أفرزتها مراحل تاريخية مختلفة هو عاجز عن مواجهات وتحديات المرحلة الحديثة وسيبقى فكراً مشطوراً، يطرح الشعار ثم يلتفّ عليه ويقيّده إلى حدّ التناقض مع مقاصده.

* إن المعركة الديمقراطية ليست فقط تشكيل أحزاب ونزولاً في مناسبات انتخابية للتأثير على القرار التشريعي والسياسي. إن الأمر أكبر من ذلك بكثير، ففي أحيان كثيرة تكون هناك برلمانات وانتخابات ولا توجد برغم ذلك ديمقراطية. يبدأ التحول بإعادة الاعتبار للفرد كقيمة مستقلة وذات شأن في التحول السياسي والاجتماعي، وتتحقق استمرارية التحول باستناده على آليات ومؤسسات قوية لها كامل الصلاحية، وإعطاء الأجهزة الرقابية من برلمان وصحافة حركة وشبكة ممتدة إلى التنظيمات النقابية والثقافية والاجتماعية وغيرها.      

وهكذا يصبح النضال، من أجل ديمقراطية فعلية وشاملة، نضالاً أخلاقياً ثقافياً وسياسياً في الوقت نفسه. هو جهد فردي وجماعي من أجل ثقافة جديدة تصهر الديني والاجتماعي والقانوني والسياسي والتراثي والفكر الوافد وحكمة الشعوب وتجاربها ضمن نسق تراعى فيه الخصوصية دون التنكر للقيم الكونية.

هذا هو الفضاء الذي يمكن أن يقوم بإنتاج فكر إسلامي ديمقراطي.

العدد 1104 - 24/4/2024