حقوق السوريين في مهبّ رياح المصالح والمطامع

إيمان أحمد ونوس:

ما إن انقشع غبار الحرب العالمية الثانية بكل تبعاتها وويلاتها، حتى سارعت الدول إلى إنشاء منظومات أممية لترسم معالم العلاقات فيما بينها من جهة، وتعمل على وضع خطوط عريضة لحقوق الإنسان الأساسية التي اغتالتها الحرب في مختلف الدول والمجتمعات من جهة أخرى. وقد صيغت المبادئ الأساسية لتلك الحقوق فيما عُرف لاحقاً بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، عام 1948، وقد اختير العاشر من كانون الأول من كل عام للاحتفال والتذكير بتلك الحقوق في مختلف أنحاء العالم، وذلك من أجل تسليط الضوء على العديد من الانتهاكات التي تتعرّض لها في بعض الدول.

لكن، منذ ذلك الحين حتى اليوم، وإذا ما أمعنّا النظر بواقع غالبية البلدان (ومنها سورية) التي كانت بمثابة غنائم حرب للدول الكبرى، سنجد سواء من خلال ما يذكره التاريخ، أو ما نعيشه في الواقع، أن حقوق الإنسان لم تصل يوماً إلى مداها المطلوب والمنصوص عنه في الاتفاقيات الدولية، وذلك خرق واضح لحق تلك الشعوب في الحرية والكرامة وحتى الاستقلال الذي لم يكن ناجزاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، ذلك أن الدول الاستعمارية لم ترحل إلاّ بجيوشها فقط، بينما بقيت مُهيمنة على مقدرات الدول المستقلة وثرواتها وقدراتها وقراراتها عبر الأنظمة التي وضعتها بدلاً عنها، معتمدة عليها لأجل استمرار ضمان مصالحها فيها وتنفيذ ما تبتغيه من مخططات مستقبلية في غالبية تلك الدول. وهنا من الطبيعي أن تكون حقوق الإنسان في ظلّ هذا الوضع منقوصة ومُنتهكة في بلدان سيادتها منقوصة ومرهونة لما يريده الآخرون، وبالتالي لا يمكن للديمقراطية الحقيقية والفاعلة أن تسود، بما تكفله من حكم الشعب لنفسه، أو من خلال حقّه الأساسي في ثروات بلاده وخيراتها، وحتى من خلال حريته في اختيار من يمثله أو ينوب عنه سواء في الحكم أو في تحصيل الحقوق وما شابهها.

صحيح أن سورية كانت من أوائل الدول التي نالت استقلالها في المنطقة العربية، وصحيح أيضاً أنه لا يُمكننا إغفال ما قامت به بعض الحكومات التي جاءت بعد الاستقلال من محاولة إتاحة الفرصة للتحوّل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، بما يقود إلى حماية أهم الحقوق الأساسية للناس فيها، لكن سلسلة الانقلابات العسكرية المتعاقبة وبفترات زمنية متقاربة جداً، إضافة إلى عوامل سياسية أخرى خارجية، عرقلت، بل وأعاقت العديد من مشاريع التنمية التي تعمل حقيقة على رفع سوية المواطن المادية والمعرفية والسياسية، وبالتالي فإن العديد من الحقوق كانت منقوصة أو غائبة بل ومُغيّبة، بحكم ما تقتضيه المراحل الانتقالية للحكومات المتعاقبة والظروف الخارجية بمختلف ضغوطاتها ومتطلباتها المفروضة. وبهذا بقي حال السوريين وحقوقهم رهينة هذا الواقع وما استتبعه في عقود لاحقة من سطوة الأجهزة الأمنية وقمع العديد من الحريات التي نصّ عليها الدستور وأهمها حرية الرأي التي لو لم تُصادر لكانت سورية والسوريون في غير ما هم عليه اليوم. كذلك استفحال ظواهر سلبية عديدة في كيفية إدارة شؤون البلاد والمجتمع، فقد سادت المحسوبيات في اختيار الكوادر القيادية السياسية والاقتصادية وحتى المجتمعية، ما أدى حتى يومنا هذا إلى وصول أشخاص غير مؤهلين للمناصب التي احتلوها لسنوات طوال فشلوا خلالها في إدارة الموارد البشرية والطبيعية والاقتصادية وغيرها، بل وعملوا أيضاً على تعزيز الفساد الذي وُلِدَ من رحم تلك القيادات والكوادر وتكاثر حتى أصبح كالجراد يلتهم كل ما يقع تحت سطوته بما فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان كافّة.

بالتأكيد إن هذا الواقع كان أحد أهم أسباب ما نُعانيه منذ أكثر من عشر سنوات، بل ومنذ أن فُتحت الأبواب على مصراعيها لمختلف الاستثمارات والتوصيات والوصفات الدولية التي قادت إلى انتهاج ما سُمِّي آنذاك باقتصاد السوق الاجتماعي، الذي أفرغ الحكومات والمجتمع من كل إمكانية للنهوض مُجدّداً، بما أفرزه من آثار اجتماعية واقتصادية كارثية كانت وما زالت أحد أهم عوامل التخلّف والتبعية التي نعانيها اليوم بمختلف تجلياتها، وهذا بالمجمل ما يعمل على هدر حقوق الإنسان في أيّة بقعة من الكون، رغم كل بريق الدستور والتشريعات القائمة، فكيف ببلد عاثت فيه حرب مجنونة لم يشهد تاريخ البشرية لها مثيلاً، ولم يكن للشعب فيها ناقة ولا جمل سوى أنه دفع وما زال يدفع فواتيرها وضرائبها من تشرّده وجوعه وفقره وانعدام أبسط مقومات الحياة الإنسانية لديه، فهام بعضه على وجهه في مختلف بقاع الأرض بحثاً عن أمانٍ مفقود، وعن لقمة عيش وحبّة دواء وبعض دفءٍ في بلدان تكاتفت حكوماتها المُتحضّرة والتي صاغت إعلان حقوق الإنسان على نهبه ومحاصرة من بقي هنا بالعقوبات والجيوش والموت المجاني في ادّعاء واهٍ بأنها تُحاصر الحكومات وتعاقبها، وهي تُدرك تماماً أن الفقراء وحدهم المحاصرون والمعاقبون، حين يفرحون وبحزن مُستتر بسفر أبنائهم عنهم إلى بلاد تمنحهم بعض قدرهم وإنسانيتهم، هم المحرومون حتى من رغيف الخبز الذي كانت بلادهم تورّد القمح لأغلب بلدان العالم بينما يقفون اليوم طوابير لا تنتهي من أجل فتات بعض حقوقهم التي اغتالها الفاسدون وتُجّار الحروب ومستغنموها مدعومين من مسؤولين لا يقلّون عنهم فساداً واستغلالاً لأبسط احتياجاتهم، وبالتالي انتهاك حقوقهم التي نصّت عليها الاتفاقيات الدولية وصانها الدستور، في الوقت الذي تنتهك فيها الدول الكبرى وتستبيح الأرض السورية لأجل مصالحها ومطامعها في ثرواتها الباطنية وسواها من مصالح استراتيجية تُخالف بلا أدنى شكّ كل ما جاء في ميثاق الأمم المتحدة كتقرير الشعوب لمصيرها، والمساواة في السيادة والاستقلال، وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية، ومنع التهديد بالقوة أو استعمالها، والاحترام العالمي لحقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع. كما أنه مُخالف لإعلان منح الاستقلال رقم 1514 تاريخ 14 كانون الأول لعام 1960 الذي جاء فيه:

– إن إخضاع الشعوب لاستعباد الأجنبي وسيطرته واستغلاله يُشكّل إنكاراً لحقوق الإنسان الأساسية، ويناقض ميثاق الأمم المتحدة، ويُعيق قضية السلم والتعاون العالميين.

– لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تُحدّد بحرية مركزها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق إنمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

– تلتزم جميع الدول بأمانة ودقّة بأحكام ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الانسان، وبهذا الإعلان على أساس المساواة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية لجميع الدول، واحترام حقوق السيادة والسلامة الإقليمية لجميع الشعوب.

وهنا، أليس في كل هذا تناقض صارخ وفاضح بين ما نصّت عليه الاتفاقيات الدولية التي أبرمتها الدول المُتحضّرة آنذاك، وما تفعله اليوم في سورية وغيرها من بلدان!؟ وهل بقي من قيمة إنسانية وأخلاقية للاحتفال العالمي السنوي بحقوق الإنسان، في وقت باتت حقوقنا كسوريين متلاشية في مهب رياح طمع وجشع الفاسدين من مسؤولين وأشباههم من جهة، وفي قلب عواصف المصالح والمطامع الدولية من جهة أخرى؟

العدد 1102 - 03/4/2024