أخلاق تعرّت من حشمتها
وعد حسون نصر:
تحت مظلّة الحرب يبدو أن الأمر لم يقف عند التعرّي الجسدي، فقد تجاوز الجسد ليصل إلى الفكر، يخلع عنه ثوب العفّة تحت مسميات عديدة كالحاجة، القهر، الذل، الحرب. نعم، الحرب خلعت عن أخلاقنا ملابسها، عرّتها من مبادئها فصارت المرأة هي المقاتل الأول في هذه الحرب الشرسة، تصارع الظروف، فتارة تهزم قهرها وأخرى تقع أسيرة حاجاتها ومستلزماتها، هنا تغرس الحرب براثن القهر أكثر فأكثر في جسد المرأة النحيل. هذه المرأة المهزومة من كل الأطراف قد هُجِّرَت، وفقدت البيت والأمن والأمان، فقدت الأسرة، فقدت الابن، الأخ، العمل، حتى الحب والضحكة والسعادة. هُزِمَت وأصبحت مثل أيّ غصن يابس، فباتت حطباً مرميّاً ينتظر عود ثقاب يحرق داخله كي يطعمه القليل من الدفء، وليس المهم إن صار بعدها رماد. لقد اضطّرت الكثير من النساء للعمل بعد كل هذه الهزائم، منهن من تخلّين عن الدراسة واتجهن للعمل في ورشات صغيرة أو محال تجارية، ومنهن من لم تكن بالأساس من أصحاب الشهادات ولا تملك خبرة بأي مجال، فاتجهت لأعمال التنظيف وما شابه من أعمال منزلية لا تحتاج سوى خبرتها في إدارة المنزل، ومنهن من عملت وبقيت تدرس وكانت في المجالين ناجحة ومثال للمرأة المعطاء القوية الصابرة والطموحة، وكأنها شجرة كلما اشتدّ الخريف عليها تزهر في ربيعها أكثر وأكثر لتعطي حلو مذاقها من فاكهة النجاح للمجتمع، والأشدُّ جمالاً وفتنة، صاحبة القوام الجميل ممّن يرغبن الجاه والمال والمظهر الأنيق دون تعب، اختصرت الطريق على نفسها من هذا الشقاء والعناء وباتت تبيع الهواء والغمز واللمز، مقابل فستان جميل أو عطر باريسي أو حتى عقد يشعُّ بصفار الذهب الخالص لتذوق حلاوة القادم مغموسة بمرارة الماضي، وأخرى ساقتها ظروفها القاسية مجبورة لتقع بين مخالب ثعالب الحروب وتجار الأجساد فوجدت نفسها بائعة هوى مرغمة مقيّدة بسياط من الذل والقهر، فإن لم تكن خير جليس في ليلة حمراء لتاجر كبير أو سياسي مهم، فإنها ستلوذ بالأرض فراشاً والسماء غطاءً وحذاؤها وسادة رأسها بجوار جدران باردة في أحد الأزقّة المظلمة، وهنا ستنهش جسدها الوحوش البشرية بأبخس الأثمان، لذلك ترضخ مجبرة وتسكت على الاستباحة لكي لا تذوب قطعة السكر بفمها وهو ممتلئ بالدم المالح.
إن الكثير من الأسباب دفعت ببعض النساء فسقطن في مصيدة الدعارة، ولعلّ الزواج القسري والمبكر وخاصة للقاصرات جعل البعض منهن يهرب من الواقع فعاش تجربة العلاقات غير الشرعية، وهنا جرى استغلال بعض الفتيات من خلال هذه العلاقات وخاصة بعد التعرّض للابتزاز، فأصبحت وسيلة للمتعة بيد المستغلين وأداة ربح، فتكون هذه الخطوة الأولى في طريق الدعارة. أيضاً وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة (الفيس بوك) والتعرف من خلاله على شبّان بغاية الزواج أو حتى الفسح والسهرات أو المال، فقد ترسل بعض الفتيات صوراً لها بعد أن ترتاح أو تصل العلاقة إلى حدٍّ ما مع الشاب، فيقوم بعض الشباب باستغلال هذه الصور للابتزاز، وهنا تجد الفتاة نفسها ضحية ومجبرة بطريقة قسرية على ممارسة الدعارة. وعلى الرغم من هذه الأسباب تبقى الدعارة بكل أشكالها سواء كانت شبه علنية أو مخفية أو منظمة لها أرباب يقودونها، تبقى جريمة بشعة بحق النساء، حتى إن كانت المرأة نفسها ترغب أن تكون سلعة يجب أن يخضع مرتكبوها لأشدّ أنواع العقوبات، خاصة أن هناك دولاً تعتمد على الدعارة كوسيلة من وسائل السياحة، وهنا تصبح المرأة أداة تسلية ووسيلة للعرض… والطلب. لذلك يجب أن تُحفظ كرامة المرأة، فهي مواطن له كيانه وحقوقه في المجتمع، وعلى المنظمات الحقوقية والمؤسسات التي تعنى بشؤون المرأة وحقوقها أن تحفظ ما تبقى من أشلاء لجسد المرأة الممزّق بفعل الحروب من نهش الوحوش البشرية، فلا يمكن أن نبني مجتمعاً بنصف مشلول، ولا يمكن أن نخرج للعالم بجيل تربى على يد امرأة تعرّت للقهر لتطعم الأفواه، فطعم الذل عفن ولا يمكن أن يخرج من الروح زهر وياسمين، لذا احموا النساء من أنفسهن أولاً بالثقافة والوعي ومن ثم احموا أجسادهن من براثن القهر ومخالب الضباع، فالمرأة أم والأم مدرسة ولا يمكن للمدرسة أن تعلّم الفجور، لأن بالعلم والوعي ترفرف الفضائل على راية الأخلاق المنصوبة فوق مجالس علمنا ودور دراستنا، وهنا نستطيع التمييز بين عطاء الحب للحب وبين عطاء اللذة للمتعة، فالمرأة هي الحب ولا يمكن للحب أن يباع بقروش الذل على عروش القهر في الليالي الحمراء..