الخبز.. يا ملك الزمان!

 ذوقان شرف:

ربما كانت الحكومة تستمتع، وهي ترى حشوداً وطوابير، من المواطنين، على منافذ بيع الخبز، فبعد أكثر من شهر من إذلالٍ يوميّ لا يستثني كبيراً ولا صغيراً منهم، حاصت الحكومة ولاصت، في أواخر تشرين الأول 2020، وبقّت البحصة التي كانت تتلجلج بها، فضاعفت سعر الخبز، وعدّلت وزن الربطة، وضاعفت كذلك سعر كيس النايلون الذي يوضع فيه الخبز.

ومصدر (استمتاع) الحكومة بمنظر الحشود والطوابير هو ظنّها أنها، بذلك، تدفع الناس دفعاً، وتحشرهم في أضيق الزوايا، لتجعلهم يقبلون ويرضون، بل تجعل بعضهم يستعجلون ويطالبون، بأيّ مخرج تفرضه عليهم، دون أي ردّات فعل لا تروق لها ولا لأصحاب القرار، وهو هنا مضاعفة سعر الخبز، الذي لا تستغني ولا يمكن أن تستغني عنه أي أسرة سورية.

وكانت الوزارة قد ضاعفت، قبل ذلك بأسبوعين تقريباً، سعر كلٍّ من البنزين والمازوت (الصناعي)، ومرّرت بين هذه وتلك (منحةً) لا تُسمن ولا تُغني، ذلك أن ليرتنا تعرّضت، على مدى السنوات الماضية، لاهتزازات أفقدتها هيبتها ومعظم قيمتها، ودفعتها دفعاً إلى الحضيض، وبذلك صار نحو 90% من السوريين يرزحون تحت خط الفقر!    

خطاب مكرّر

وقد أوضح المهندس جمال الدين شعيب (معاون وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك)، بحسب وكالة سانا، أن (مبررات صدور هذا القرار_ يقصد قرار مضاعفة سعر الخبز_ تتمثل بصعوبة تأمين مادة الدقيق للأفران التموينية جراء العقوبات الاقتصادية الجائرة والحرب الإرهابية على سورية منذ نحو 10 سنوات).

وأضاف شعيب في لقاء مع قناة السورية مساء يوم الخميس 29/10/2020: (إن هناك أسباباً أخرى لصدور هذا القرار الذي سيبدأ تطبيقه منذ صباح غدٍ الجمعة 31/10/2020، تتعلق بتهريب الدقيق التمويني والاتجار به، والذي يذهب للقطاع الخاص والأفران السياحية وأفران المعجنات).

ورغم أن هذه الذرائع والمبررات ما عادت تُقنع إلا أقل القليل، فإن الحكومة والناطقين باسمها يكرّرونها ليبرّروا عدم رغبتهم في اتخاذ القرارات التي تريح المواطن وتضمن توفير احتياجاته، وتحافظ في الوقت ذاته على كرامته.

ما بين السطور

يشير تصريح معاون الوزير، من طرفٍ خفيٍّ، إلى عجزٍ فاضحٍ للحكومة عن ضبط عمليات (تهريب الدقيق التمويني)، وكأن من يقومون بالتهريب والمتاجرة يلبسون (طاقيات إخفاء) تخفيهم عن عيون الحكومة، فلا تراهم!

ويمكن أيضاً أن نستنتج أيضاً، بتحليل بعض المعطيات والوقائع، أن الحكومة لا تريد أن ترى هؤلاء المهرّبين والمتاجرين بالدقيق التمويني، ولا أن تحاسبهم.

هذا القرار برفع سعر الخبز يذكّرنا، مع تبريراته المعلنة، بقرار حكومة العطري_ الدردري مضاعفة أسعار المشتقات النفطية، في عام 2008، بذريعة تهريبها إلى الدول المجاورة، فبدلاً من أن تعمل الحكومة آنذاك على مكافحة التهريب والمهرّبين، وهي تعرفهم فرداً فرداً (والمقصود هنا طبعاً كبار المهرّبين الذين مُنحوا تراخيص نظامية أو استثنائية وفتحوا محطات وقود قريبة من الحدود)، وتعرف أيضاً كيف تصل إليهم، و(تلعن سلّافهم)، بدلاً من ذلك قرّرت الحكومة أن (تلعن سلّاف) عموم المواطنين، والاقتصاد الوطني كلّه، فضاعفت أسعار المشتقات النفطية، ما ترك انعكاسات كارثية على الزراعة والصناعة، وعلى مجمل اقتصادنا الوطني، وعلى معيشة السوريين عموماً. وبدأت الحكومة آنذاك تعزف علناً وتكرّر نغمة (إيصال الدعم لمستحقّيه)، لكن_ كما تعرفون_ لا التهريب توقّف، ولا وصل الدعم إلى مستحقيه، وانزاحت الخطوط الحمر عن الخبز وعن غيره وبهت لونها، وراح اقتصادنا يتدهور، وأحوالنا المعيشية تتردّى وكرامتنا تُهان، على وقع (الانفتاح) الذي كان يتبختر تحت غطاء (اقتصاد السوق الاجتماعي)، ولم يطُل الوقت حتى انفجرت أوائل 2011 أزمتنا الكارثية التي ما زلنا نعاني تبعاتها!

ويجدر التذكير هنا، ما دمنا نتحدث في أزمة الخبز، بأن حكومة العطري_ الدردري باعت، بصفقة واحدة في عام 2008 نفسه، ثمانية ملايين طن من القمح، كانت احتياطينا الاستراتيجي، في الوقت الذي لم تتمكن فيه من استيراد كميات كافية من الأرز التمويني الذي كان يوزّع على البطاقة. وعندما رفعت تلك الحكومة سعر الخبز تذرّعت بأن قسماً منه كان يباع علفاً، وأن الدقيق التمويني يُهرَّب، ويتاجَر به للقطاع الخاص وأفران الخبز السياحي وأفران المعجنات! ووعدت الحكومة آنذاك بتحسين نوعية الخبز، وتشديد الرقابة والضرب بيدٍ من حديد …إلخ! لكن ذلك كلّه ظلّ كلاماً في الهواء وقرارات على الورق، ولم يدخل حيّز التنفيذ إلا نادراً. وتكرّرت المعزوفة ذاتها عدّة مرّات، ولم يكن يومذاك لا قيصر ولا حصار … ومع ذلك، رفعت الحكومات المتعاقبة سعر الخبز وأعادت (هيكلته)، فحدّدت عدد الأرغفة في الربطة الواحدة، ووزنها، وقياس كل رغيف، لكن ذلك لم يرافقه لا وفرةٌ في وجود الخبز، ولا تحسّنٌ في نوعيته، ولا في جودته، ما عدا فترات بسيطة تكاد تضيع ولا تظهر لقلّتها، مقابل الفترات الطويلة من سوء تصنيع الخبز وعدم توفّره أحياناً.

تكامل وشركاه

إذاً، بدلاً من أن تركّز حكومتنا الجديدة جهودها لتكشف المتلاعبين بالدقيق التمويني ومهرّبيه، وبدلاً من أن تحاسبهم، وأن (تلعن سلّافهم) بموجب القوانين التي تخوّلها ذلك، وهي قادرة إذا توفّرت الإرادة، وبدلاً من تحسين نوعية الخبز وتوفيره في كل وقت بيُسرٍ وسهولة، فإنها عادت إلى تنفيذ السياسات ذاتها لتلك الحكومات، التي أوصلتنا إلى الأزمة الكارثية، واتجهت إلى تحميل العبء كلّه لعموم المواطنين، فضاعفت سعر الخبز، وسعر الكيس أيضاً، وحمّلتنا فوق ذلك عبء إرضاء معتمدي توزيع الخبز، فضلاً عمّا يتدفق يومياً إلى حسابات (تكامل وشركاه) من قيمة الخبز الذي لم يحصل عليه المواطن، إضافة إلى عمولتها الثابتة عن كل ربطة، وعادت الحكومة تكرّر علينا، بخصوص الخبز، ما (عُفنا سماعه) من حكوماتنا السابقة من ذرائع ومبررات، ولا يقلّل من مسؤوليّتها الادّعاء بتأثير الحصار والعقوبات و(قيصر) وغيره، فهل كانت تتوقع طريقاً مفروشاً بالورد؟! وها قد مضى أسبوعان على رفع سعر الخبز، وما يزال الازدحام هائلاً على منافذ بيع الخبز، ولم يتوفّر الخبز بكميات كافية، ولا تحسّنت نوعيته.

وفوق ذلك كلّه، تحمّلنا الحكومة منّةً بأنها ما زالت_ يا حرام_ تدعم الخبز بمئات مليارات الليرات، وتدعم كذا وكذا، وكأنها تدفع هذه المليارات من جيبها الخاص!

فهل تنسى حكومتنا أو تتناسى أن هذا الدعم كان في الأساس شكلاً من التعويض عن تدنّي الرواتب والأجور وتدنّي الدخل عموماً، تتولى الحكومة ضبط الدعم وتوزيعه، وهي التي كانت وما زالت تعدّ علينا أنفاسنا وتكتمها إذا شاءت؟

وهل تنسى حكومتنا أو تتناسى أن هذا الدعم كان وما زال باباً من أبواب الفساد (الكبير والصغير)، لم تتمكن الحكومات المتعاقبة، بل يمكن القول إنها لم تُرِد أن تغلقه؟

فهل تكافئ الحكومة وأصحاب القرار، بهذه السياسة وهذه القرارات، مَن ضحّوا وصمدوا على مدى العشر سنوات الماضية؟!

أليس مُخجلاً ومعيباً أن تبدي الحكومة عجزها عن توفير القمح والدقيق، في سورية التي كانت على مدى التاريخ خزّان قمح الإمبراطوريات؟!

فلتفتح الحكومة (عيونها) جيداً ولتضبط تهريب الدقيق ومهرّبيه والمتاجرين به، لا أن تتخذ ذلك ذريعة لرفع سعره، أو لتدنّي جودته.

دعم الخبز حقّ للناس، ما دامت الهوة واسعة بين الدخل المتدنّي وتكاليف المعيشة، وعلى الحكومة وأصحاب القرار، بموجب الدستور الذي أقسمت وأقسموا على احترامه، أن يضمنوا ويوفروا ويسهّلوا حصول المواطن يومياً على حاجته من الخبز، بمستوى متقدم من الجودة، دون أن يتعرّض للإذلال والتنمّر وهو ينتظر ساعات على منافذ بيع الخبز أو أمام معتمدي توزيعه!   

العدد 1102 - 03/4/2024