بين فتاوى التحريض و(العطر الفرنسي)!
طلال الإمام_ ستوكهولم:
انشغلت مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي مؤخراً بالحادث الإرهابي الذي وقع في فرنسا: نحر المعلم صامويل باتي، في باريس، ثم تبعه قطع رأس امرأة وقتل ثلاثة آخرين في مدينة نيس. جاءت هذه الأفعال الشنيعة كردة فعل على نشر صور مسيئة للنبي محمد وتصريحات للرئيس ماكرون استفزازية ومرفوضة بحق المسلمين.
لقد كتب كثيرون عما جرى، لذلك لن أدخل في التفاصيل، لكن بودّي التوقف عند بعض ردات الفعل التي برزت من الطرفين: طرف صفق للفعل الإرهابي، وآخر صفق للتصريحات الاستفزازية.
هكذا وجد العقلاء من الطرفين أنفسهم بين فكي كماشة، علماً أن دورهم الآن مطلوب أكثر من أي وقت مضى درءاً للعنف والعنف المضاد والنزعات المتطرفة والعنصرية تحت أي مسمى جاءت.
نشير بداية إلى أن الإساءة والاستخفاف بالرموز الإنسانية والمعتقدات الدينية لأية مجموعات بشرية كبيرة كانت أم صغيرة ليست حرية رأي، كما يدّعي ويروّج بعضهم ولا يجمعها بالعلمانية أي جامع. من يقرأ بهدوء التصريحات والمواقف المؤيدة أو المعارضة يرى أنها تصب بخدمة أصحاب النوايا الخبيثة الذين لديهم أجنداتهم.
المؤسف أن بعض الأصوات ألصقت بالعلمانية تصريحاتِ ماكرون ونشر الصور المرفوضة بالمطلق وبدأت حملة واسعة لتشويهها بقصد أو دونه، دون أن تدرك أن تلك التصريحات لا يجمعها أي جامع بالمفهوم الصحيح للعلمانية. فالعلمانية تعني عدم تسييس الدين وعدم تديين السياسة مع فصل الدين عن مؤسسات الدولة والتعليم، واحترام وحماية حق جميع مواطني الدولة من حيث الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الانتماء الديني أو الطائفي.
العلمانية الحق تحترم حرية العقائد وممارسة الشعائر الدينية كما تحترم وتدافع عن حق غير المتدينين في التعبير عن آرائهم دون المساس بعقائد الآخرين باعتبار مسألة التدين أو عدمه هي مسألة شخصية.
لذلك نؤكد أن تصريحات ماكرون الاستفزازية لا يجمعها بالعلمانية الحق أي جامع مهما ادّعى، بل على العكس تشوه صورتها وتعطي سلاحاً للمتشددين. إن تصريحاته تصب في خانة أجندة جيو سياسية، ولذلك حديث آخر.
على الضفة الأخرى استغل المتدينون المتشددون تلك التصريحات الاستفزازية للقيام بعمليات قطع الرقاب وقتل أبرياء، تحت شعار الدفاع عن الدين. واستغل أردوغان الوضع ليظهر نفسه المدافع عن الدين وهو الذي دعم، وموّل وسلّح المتشددين في سورية والعراق وغيرها.
إن تصرفات أردوغان المشبوهة وتصريحات ماكرون الاستفزازية هما وجهان لعملة واحدة تخدم أجندات جيوسياسية لا علاقة لها بالإسلام أو بالعلمانية. وهذا الشكل برزت بوادر انقسام خطير ومدمر في الشارع الفرنسي بل والعالمي.
ما العمل؟
نقول بداية إنه إذا استمر التجييش والتجييش المضاد كما هو الآن بين من يدعي حماية الإسلام، ومن يدعي حماية العلمانية، فإن المستقبل ينذر بتصعيد خطير يذهب ضحيته أبرياء مع حرف الأنظار عن المعضلات الأساسية التي تواجهها البشرية من أمراض، وحروب، وجهل وتدمير البيئة.
الصراع ليس بين الأديان أو الطوائف أو العلمانية، وإنما صراع يخفي خلفه أجندات سياسية واقتصادية واستعمارية.
نعتقد أن الطريق الأمثل الذي يجب على العقلاء من كل الأطراف العمل من أجله وتحقيقه يتجلى بالحوار عوضاً عن قطع الأعناق أو التصريحات الاستفزازية.
يتجلى باللجوء إلى المحاكم، إلى العدالة والقانون، لإدانة جميع التصريحات التصعيدية ووقفها من كل الأطراف.
يتجلى برفع الأصوات للمطالبة بتشريعات دولية تدين /تحرم وتعاقب أية تصريحات أو أفعال تزدري الأديان.
يتجلى بالمزيد من العلمانية ونشر مفهومها الصحيح وتخليصها من التفسيرات والتشويهات المضرّة التي تلحق بها عمداً أو جهلاً.
يتجلى أخيراً بحل جميع الخلافات بالحوار والعقل بعيداً عن الساطور والاستفزاز.
بهذا الشكل نقطع الطريق على المتطرفين من كل شاكلة ولون، على دعواتهم التدميرية سواء جاءت بفتوى تحريضية أو بعطر فرنسي، نقطع الطريق على أجنداتهم الجيوسياسية.