العالم الأزرق مزركش بالوردي
وعد حسون نصر:
حال الجميع في هذا الزمن زمن (السوشل ميديا)، نتخبّط في عالم أزرق افتراضي بعيد عن الواقع الحقيقي، نعشق، نهيم، نحب، نكره، نحقد، نشتم، نمدح ونذم، أو حتى نفرح ونرقص ونسافر ونعود، ونرسم صوراً، كل هذا ضمن إطار أزرق، تارة نلوّنه بالوردي والبنفسجي، وأخرى نلوّنه بالأسود والبني. هنا نجمع أصدقاء يشاركوننا الفرح بقلوب حمراء، والحزن بوجهٍ باكٍ، والرحلات من خلال التعليقات المُزيّنة بالورود والوجوه الضاحكة، حتى إننا نتشارك التعليقات ونتبادل الأحاديث معاً على الصورة والمنشورات، ونتعرّف بالرسائل الخاصّة فنُظهِر أفضل ما لدينا من قيم وإيجابيات، ونبدأ بإعطاء النصائح وكأننا جميعاً مرشدون ومصلحون في المجتمع، ولا ننسى النصائح الطبية التي جعلت من كثيرين عبر العالم الأزرق أطبّاء مختصين. نسمع قصص حب كثيرة انتهت بالزواج من خلال هذا العالم الكبير المُحاط بإطار أزرق، وبالمقابل قصص عشق تنتهي عبر العالم ذاته، كذلك نرى فيه الابتزاز والتشويه لصور كثير من الأشخاص وخاصةً أصحاب المناصب والمشاهير، حتى الناس العاديون يتعرضون للابتزاز والتنمّر داخل إطار العالم الافتراضي، فهو عالمٌ غامض رغم كل الانفتاح فيه، عالمٌ كاذب لدرجة أننا نكون ضمن الفراش ونكتب أننا في جزيرة بعيدة أو رحلة صيد أو نتمتع بيوم صيفي على أحد شواطئ العالم. ولا ننسى الكمّ الهائل من التفاعلات الكاذبة ونحن على يقين تام أنها كذب، لكنّنا نردُّ على المجاملة بغاية الحب والحماس بعبارات كثيرة مثل (يسعدك، نورت، طلة ملاك، البدر بذاته) مع العلم أنّنا نعرف تماماً (خلف البدر بذاته عبارة قمة البشاعة، وأيضاً في نفسنا بدل عبارة طلة ملاك عبارة شو هذا مثل الغول)! وهنا يختلف (الواقع الحقيقي) عن (الواقع الفيسبوكي) ورغم ذلك ما زلنا مُتعلّقين به ولا نستطيع مفارقته، حتى إن من يتجاهلنا من خلاله نتجاهله على أرض الواقع، دعوات ومباركات الأفراح باتت من خلاله، وعزاء الأتراح من خلاله، كذلك نجاحنا، فشلنا بات من خلاله، والأهم علاقاتنا العاطفية التي لا نعبّر عنها إلاّ بطرق الأزرار الساكنة، أصبحت شعار هذا العالم. رغم زيفه لكنه جميل يأخذنا إلى بلدنا، نجلس مع أصدقاء من مناطق مختلفة، نتسامر نشرب قهوتنا الصباحية على أحاديث ونمنمات من خلف الشاشة، كذلك نسافر معهم عبر عاداتهم وتقاليدهم وأغانيهم وحتى شعائر حزنهم، نبعث رسائل صوتية لتنمّ عن قربنا منهم أكثر، نكتب الخواطر من أمل، من غضب، من حب. وفي المقابل نفتقد…؟! بتنا نفتقد أشخاصاً إذا غابوا يوماً أو يومين عن عالم الفيس، نراسلهم، نتمنى لهم الخير رغم عدم معرفة وجوههم. نعم، هو العالم الأزرق الوردي يحوي الفرح ويحوي الحزن، يحوي الصدق ويحوي الكذب، والكذب فيه كثير ويفوق الخيال المُحاط به، لذلك نرى دائماً الزيف بالمنشورات إذ تختلف عن حياة الكثيرين على أرض الواقع، نرى الناس الذين ينشرون عبره الفضيلة أكثرهم بعداً عن الفضيلة وخارج قيمها وحتى خارج مبادئها، أكثر الناس تنظيراً بالشرف والعفّة داخل عالم الفيس هم في الواقع بعيدون عنها. يغشنا هذا العالم في اختيارنا لأصدقائنا من خلاله، ونرى أنفسنا أحياناً وقعنا بين براثن وحوش دون قصد، والكثير منّا يُزَجُّ بقصص لا علاقة له بها على أرض الواقع، فقد قيّدنا بها العالم الملوّن الكاذب من خلال الإنترنت وأصبح طرفاً أساسياً فيها، فكم علينا أن نتوخّى الحذر من وردية الألوان خارج بقعة الحياة اليومية وخارج إطار واقعنا المعيش لكيلا نقع في هاوية الألوان المُغيّبة جميعها والباقي فقط اللون الأسود. لذا وإن طغى اللون الأزرق على تفاصيل حياتنا، لابدّ أن نعود للواقع بألوانه المُتعدّدة ليصبح الأزرق فيها لون ثيابنا، طلاء أظافرنا أو حتى طلاء جدران منزلنا وسريرنا أو خزانة ملابسنا، كأنه لون عادي نرغبه أو لا نرغبه، فالواقع مُتعّدد الألوان وأشدُّ ألوانه الأسود والأبيض أم الوردي هو لون الأحلام، فلنحافظ عليه بواقعنا ونمزجه مع أسوده وأبيضه وأزرقه.