العالم الافتراضي.. واقع إنساني آخر

إيمان أحمد ونوس:

منذ نشوء ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في القرن الماضي، تغيّرت ملامح الحياة الإنسانية على نحو لم يكن متوقعاً ولا حتى متخيّلاً، فقد بدا الكون الشاسع، بقاراته البعيدة، قرية صغيرة يتواصل سكانها بسرعة فائقة، كما يمكن للكمّ الهائل من المعارف والعلوم والتقنيات الحديثة أن تصبح بمتناول الجميع بأقل زمن وأسرع وسيلة.

وهذا ما جعل البشرية كلها في تواصل آني حيّ وفعّال، من حيث الاطلاع المباشر على آخر أخبار الشعوب وثقافاتها وحضاراتها وابتكاراتها، بما وسّع مساحة المعارف والتفاعل مع الآخر الذي كان مجهولاً إلى زمنٍ غير قليل، وهذا ما ترك آثاراً قد تكون إيجابية أو سلبية على المتلقي، تبعاً لاهتماماته وثقافته ومدى وعيه لما يريد معرفته أو التقصّي عنه.

ومع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي المختلفة بأهدافها المتعدّدة والمتنوّعة، نشأت بين الناس حتى من شعوب مختلفة علاقات اجتماعية_ افتراضية عزّزت شعور البعض بأن هناك أشخاصاً يمكن أن يصبحوا أصدقاء فكر وإنسانية من خلال التفاعل فيما بينهم، ومناقشة العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك (ثقافية، سياسية، اجتماعية، دينية، وعلمية.. الخ) رغم محاولة العديد من أنظمة الحكم في العالم التقييد على تقنيات النت وشبكات التواصل الاجتماعي، أو سنّ تشريعات من الممكن أن تكون مقيّدة أكثر في الدول التي سُمِح للناس فيها ولوج هذا العالم الافتراضي بكل ما يحتويه من معارف ومعلومات أو افكار يتمّ تبادلها أو تأييدها لتُشكّل في بعض الأحيان رأياً عاماً عالمياً مشتركاً حول مختلف القضايا التي تُطرح (وهذا ما لمسناه في الأحداث والحروب الجارية في المنطقة). ولا أعتقد أن هناك أفضل أو أكثر شعبية إن صحّت التسمية من الفيسبوك الذي غدا منبراً مُتعدّد الاتجاهات لكل الشرائح الاجتماعية على اختلاف ثقافاتها وميولها واهتماماتها وأعمارها، إضافة إلى أنه بات من وسائل الإعلام المُعتمدة في نقل الأخبار بين البلدان، وأصبح كذلك منصّة للمباريات الشعرية وباقي أنواع الآداب والفنون الأخرى وحتى مختلف أنواع العلوم، حتى صار له أكاديميات افتراضية تمنح الأوسمة والشهادات لأعضائها بغض النظر عن مستوى إنتاجهم لاسيما في مجال الأدب.

لكن الجانب الأكبر الذي استحوذ على اهتمام الغالبية هو أنه – الفيس-  صار نادياً اجتماعياً يلتقي من خلاله الناس على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم المتنوّعة، فيتعارفوا ويُصبحوا فيما بعد أصدقاء يتواصلون وكأنهم يعيشون الواقع حقيقة بكل ما تحمله أو تعنيه تلك العلاقات من حيث التعاطف أو المساعدة وغيرها ممّا يحصل في الحياة الاجتماعية الطبيعية. بعض تلك العلاقات أو الصداقات تغدو مع الوقت مهمّة وأساسية في حياة البعض على اعتبار أنها عملت على تلبية احتياجات نفسية واجتماعية وربما مادية أحياناً لأولئك الناس، وهذا واقع لا بدّ أن غالبيتنا عايشه من خلال أصدقاء مفترضين باتوا مع مرور الوقت أصدقاء حقيقيين بعد أن تمّ التواصل واللقاء الحي بينهم، وهذا أمر إيجابي فاعل وبنّاء على المستوى الشخصي لهؤلاء الأصدقاء. لكن بالمقابل، هناك أشخاص يفرضون أنفسهم كأصدقاء حتى يصلوا إلى علاقات لا تُرضي الطرف الآخر أو لا تُلبي احتياجاته المنشودة، فيّصبح الصديق المفترض من ألدِّ الأعداء يقوم بالتشهير والتهديد وما شابه بما يؤذي الطرف الآخر وقد يُهدّد حياته الأسرية أو الزوجية والاجتماعية، وقد يحصل الأمر ذاته من أصدقاء معروفين في الواقع الطبيعي، كل هذا بفعل عدم احترام خصوصية الآخر من جهة، وعدم امتلاك ثقافة ووعي للتعامل مع تلك التقنيات ومجالاتها المختلفة، أو مع روّادها بالشكل اللائق والمحترم، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلُّ على تدني الوعي وتخلّف المفاهيم والقيم في النظرة للآخر لاسيما في حالة اختلاف الجنس.

غير أننا إن نظرنا إلى الجانب الإيجابي الآخر على مستوى العلاقات الاجتماعية، فإننا نجد أن هذا الفضاء ذاته قد قلّص المسافات بين الناس بشكل واقعي، بمعنى أن العلاقة بين الآباء وأبناء مُهاجرين مثلاً لم تعد تكتنفها الوحشة والوحدة والحنين، إذ أصبح التواصل حيّاً عبر الصوت والصورة، ممّا قلّل من مشاعر القلق والحزن على الغائبين.

ولا يفوتنا أنه على المستوى الأكاديمي تمّ إنشاء الجامعات الافتراضية في مختلف البلدان التي سهّلت كثيراً على الطلبة الراغبين بالدراسة في جامعات دولية أو خفّفت الأعباء المادية المفروضة بينما هم في بلدانهم وبيوتهم، ممّا فسح المجال رحباً لتلقي العلوم بطريقة أقلّ كلفة ومشقّة من السابق.

لكن، ورغم كل ما ذكرنا، يبقى هذا العالم موحشاً ومُخيفاً إن لم يُستخدم بطريقة بنّاءة وإيجابية، لاسيما للأجيال الصغيرة التي قد تلج متاهات تودي بهم لانحرافات قد يصعب التخلّص منها بسهولة. وهنا تقع على الأهل مسؤولية تربوية ليست بالسهلة في هذا المجال من حيث المراقبة والمُتابعة والحوار حول ماهية الاتجاهات التي يلجها الأبناء والمعلومات التي يحصلون عليها، وكيفية الاستخدام الأمثل لتلك التقنيات بما لا يُسبب الأذى أو الانحرافات المُحتملة.  

العدد 1104 - 24/4/2024