بعض التوازن مطلوب

إيناس ونوس:

انتشرت (وسائل التواصل الاجتماعي) بين الفئات العمرية المختلفة بهدف المزيد من التواصل في زمنٍ مُتسارع الأحداث وعدم قدرة النَّاس على التواصل فيما بينهم بالطُّرق المعروفة سابقاً من خلال العلاقات الاجتماعية، وكمنبرٍ يساهم في نشر أفكار ورؤى مختلفة ومتنوعة يجمع أصقاع الأرض كافَّةً عبر هذه الشَّاشة الصَّغيرة القادرة على أن تجوب العالم برمَّته في ثوان، وبحكم التَّطور التِّكنولوجي والمعرفي باتت هذه الوسائل متنوعة لدرجةٍ كبيرة، وباتت المنافسة بينها أيضاً كبيرة، غير أن بعضها لا يزال مستمراً قادراً على إثبات وجوده بينما البعض الآخر كان كفقاعةٍ طفت على السَّطح بعضاً من الوقت ثم اختفت لعدم الإفادة منه، ولعدم قدرته على مجاراة غيره.

يعتبر موقع (الفيس بوك) هو الأكثر انتشاراً بين الأوساط جميعها، والأكثر قدرةً على مجاراة كل ما يفرضه التَّطور التِّقني، وكنت من أوائل الأشخاص الذين انضموا إلى عائلته الكبيرة حينما سُمح له بالولوج إلى حياتنا في بلادنا، متحمِّسةً للوصول إلى العالم الواسع من خلاله، ثقافياً ومعرفياً وفكرياً واجتماعياً، ولا أنفي أنَّه ساعدني في التَّواصل مُجدّداً مع أشخاصٍ لم أعد أتمكّن من رؤيتهم لعدّة أسباب، فأعدت البريق لبعض الصَّداقات القديمة، وأضفت إلى رصيدي أشخاصاً جُدداً لم تسنح لنا الظَّروف أن يخرج تعارفنا من إطار هذا العالم الافتراضي على عكس البعض الآخر، كما أن تنوّع المجالات المتاحة ساهم في زيادة وعيي للكثير من الأمور والإفادة من النِّقاشات التي تدور حول فكرةٍ ما، ما كان له الدَّور في تنمية إمكانياتي وتطويرها، ومن جانبٍ آخر، ساهم هذا الفضاء في حصولي على فرص عملٍ إضافية، علماً أني لست ممّن يتواصلون على مدار السَّاعة في هذا الفضاء، إذ لم أسمح له باستلابي وانتشالي من واقعي الحي وابتعادي عن الحياة الطَّبيعية، ما جعلني أتعامل مع هذه الشاشة بطريقةٍ معينة، أغلقها متى أشاء وأفتحها متى أردت، ومع مرور الوقت، وتعدُّد المجالات بات التعامل مع (الفيس) يصيبني بالملل، لعدّة اعتبارات، منها:

– الخوف من الدُّخول في نقاشاتٍ معينة ومن عواقبها المعروفة للجميع.

– زيف الكثير من العلاقات، نظراً لعدم توافر المصداقية الحقيقية من قبل كثيرين من مستخدمي هذا الفضاء.

– استخدام بعض الأشخاص لهذا المكان للوصول إلى أهداف خاصة تتلخَّص بإقامة علاقات غير سوية (وتحديداً من الناحية الجنسية).

– المُشادّات والخلافات الناشبة عن طرح فكرة ما ومن ثم اعتماد منهج التخوين أو الشتم أو …إلخ بدل الإفادة من اختلاف الآراء.

– الملل من اتباع سياسة القطيع في التعامل مع حدثٍ معين، في مكانٍ معين، بينما تجري أحداثٌ أخرى ربما تكون أكثر أهمية في أماكن أخرى لا يتم التطرّق إليها.

– استغلال حاجات البعض سواء على المستوى المادي أو الأخلاقي أو الاجتماعي لحاجات وأغراض لا أخلاقية.

أمورٌ عديدةٌ دفعتني لأن أتعامل مع هذه الفضاءات بطريقةٍ أكثر وعياً، فلا أسمح لها باستلابي وإبعادي عن أسرتي وعملي وحياتي، وفي الوقت نفسه يمكنني أن أستفيد ممّا أريده منها وما يناسبني وأبتعد عمّا لا أراه ضرورياً أو ذا أهمية بالنسبة لفكري ومعتقداتي ورؤاي في الحياة.

من البديهي أن يكون لمُنشِئي هذه الفضاءات أهدافهم الخاصة التي بتنا جميعنا نعرفها وندركها، وبحكم اختلاف طبيعة الحياة لم يعد بإمكاننا إلاّ الوقوع في شراكها، غير أنه لا يزال بمقدورنا التعامل بشيء من الوسطية والاعتدال مع كل ما يطرح لنا، فلا ننكرها بالمطلق ولا نسمح لها بالولوج لأدقِّ تفاصيل حياتنا أو انتشالنا من حياتنا العملية الحيّة، فالتوازن مطلوب وضروري لنبقى أصحاء نفسياً وجسدياً واجتماعياً.

العدد 1102 - 03/4/2024