إمّا صحة عقليّة أو جسديّة

غزل حسين المصطفى:

 (سِنان) ليس مجرد اسم، إنَّه كابوسٌ حقيقيٌ وشبح للحظات مؤلمة في طفولتي.
فيوم الخميس من كلِّ أسبوعٍ هو موعدي الرَّسمي معه، وبيمينه مشطٌ لا يعرف على جلد رأسي الرأفة واللطف.
قارورة ماء شخصيّة، والكثير من المناديل الورقيّة المطوية بعناية، و(السندويش) ضمن كيس شفاف مُخصّص له، يُمنع منعاً باتاً أن نلمسه بأصابعنا، قد غلّفت أمي الجزء السّفلي لتلك اللفائف لنستطيع إمساكها.
يُمنع مشاركة الطَّعام مع أيّ أحدٍ وتحت أيّ ظرف.
يُمنع شراء الطَّعام المكشوف أو طعام الباعة الجوالة.
كلُّ ما سبق وإضافات أخرى كانت مجرّد تدابير احترازية حصَّنَتنا بها والدتي خلال مسيرتنا المدرسيّة، وبعضها عُدِّل تماشياً مع المراحل العمريّة لي ولأخوتي أو الظروف المحيطة لا سيَّما وكورونا اليوم.
كنتُ أستذكر تلك التَّفاصيل ومرَّت في خاطري نغمة فتح كأس الماء، نعم، كانت علبةٌ مدوَّرةٌ مُغلقةٌ، مجرد أن تفتحها وبحركة خاطفة تصطف تلك الحلقات بعضها فوق بعض لتُشكل كأساً _سقى الله أيام الطفولة البريئة!
نظرتُ إلى أمي وبادرتها السؤال:
أمي، كُنتِ حريصةً علينا، وما زلتِ، ولكن هل كنتِ ستكتفين بتدابير السَّلامة والوقاية لو كنّا طلاب مدارس في زمن كورونا هذا؟ أم ستمتنعين عن إرسالنا كما يفعل بعضهم، أو تُطالبين بالإغلاق؟!
وقبل أن تلفظ أمي حرفها الأول، تدخّل شقيقي الأصغر مُمتعضاً من سؤالي، قائلاً: أختي، أنا طالبٌ في الصف الثالث الثانوي، أي إنني طالبٌ مدرسي، وها أنا ذا أذهب إلى المدرسة، ومن غير المنطقي أن تُغلق المدارس، هذه الأيام تُسلب من أعمارنا، كان لنا تجربة سابقة في الإغلاق، أتحدى الجميع من فتح كتاباً وطالعه أو درّس أولاده؟ كانت تلك الفترة فترة خمول غير مقبول، جاهدنا كثيراً في الاستئناف من جديد بأدمغة صافية!
أنُغلِقُ خوفاً من التّفشّي؟
انظري حالاً من نافذة الغرفة، ستجدين ابن الجيران والتراب يُغطي زيَّه المدرسي وهو يلعب في الشارع حتّى الآن والسّاعة قاربت السّادسة مساءً، وقد كانت والدته من أوائل المعترضين على الدوام والمدارس.


كورونا في المدارس فقط!
من جهةٍ أُخرى، وبالنظر إلى الوقائع فنحن في بلد غير مُهيَّأ للأزمات والطوارئ نهائياً، فمثلاً أولاد عمنا في إحدى دول أوربا قد تحوّل منهاجهم التّعليمي إلى إلكتروني، وحين عاودوا إلى صفوفهم كانت أحدث تقنيات التّعقيم تنتظرهم، وتطبيق مشدّد للإجراءات الاحترازيّة.
بينما سمعتِ البارحة أنّ جيراننا حين عادوا إلى منطقتهم بعد فتحها مؤخراً، قد فتحت المدارس فيها الأبواب على مصراعيها لطلابِ كُثر ولكن من غير وجود أساتذة!
فكيف يمكننا الحديث عن تباعد مكاني وأعداد نموذجية؟!
كيف يمكن أن نتحدّث عن أدوار ومهام منوطة بالوزارة من تأمين العديد من لوازم التعقيم أو تقسيم الطلاب إلى فئات أو أو… الخ ونحن من أجل ربطة الخبز نُجاهد!
كان هناك حلول منطقيَّة بعض الشيء سابقاً تماشياً مع الظرف العام ومع إمكانية وزارة التَّربية أو البلاد ككل، ولكن اليوم لا أدري ولا يمكن أن نتوقع إلاّ استمرار الفتح وتشغيل عدّاد الإصابات والمراقبة بصمت.
اليوم، بعد أن فُتحت المدارس، ها هي ذي تُغلق بعض الشعب الصفيّة لوجود إصابات، فالحكم بات صعباً إذ نساوم اليوم إمّا على صحة الطالب الجسديّة أو صحته العقليّة والفكريّة.
أتعرفين؟! أُصاب بالإحباط حين أحاول التَّفكير فيما نحن عليه اليوم، فجيلٌ قد ولد في الحرب وشبَّ على حُطامها، كيف يمكن لنا اليوم أن نتساهل معه ونتركه في مهب القرارات المُتخبطة؟ جيلٌ بات فيه (الحشّاش) والمغتصب، والقاتل، والسارق و و و… الخ كيف سيكون حاله إن تُرك بلا تعليم؟ نحن بأمسِّ الحاجة إلى المعرفة والوعي وتوسيع المدارك العقلية بالعلم والثقافة لهذا الجيل ولغيره، ولكنّنا أيضاً نحتاجه أيضاً بكامل صحته الجسدية والنفسيّة.
لا أدري ماذا أقول لكِ يا أختي، ولكنني كنتُ أتمنى أن أعهد بلادي على غير هذه الحال، كنت أتمنى أن أفكّر في مشروعٍ أغني به بلدي يوماً عوضاً عن سعيي وراء أولى الفرص في السّفر.
لستُ سوداويّاً، لكنَّه الواقع لا أكثر!

العدد 1104 - 24/4/2024