بالقلق مسوّر بلدي!
إيناس ونوس:
في كلِّ صباح وكلِّ ظهيرة، أذهب إلى عملي مصطحبةً ابنتي الصَّغيرة إلى مدرستها، تتقاذفنا أمواج التَّلاميذ صغاراً وكباراً، سيلٌ من الكائنات البشرية يرافق صباحاتنا ومساءاتنا، بعضها مرحٌ ومنطلقٌ في هذه الدُّنيا التي تحمل له كلَّ المجهول، والبعض الآخر يسير الهوينى وكأنَّ ظهره مثقلٌ بشتَّى الهموم، منهم من تشتَّت فكره عمَّن حوله كلياً، ومنهم من يركض مالئاً الكون صراخاً وكأنَّه الوحيد في هذا العالم.
تتقاذفنا هذه الأمواج فنصل أخيراً إلى المدرسة فأودعها قلبي وروحي، وأواصل السَّير إلى مدرستي حيث أعمل، وأتفرَّغ في طريقي للتَّفكير بهؤلاء الأطفال، بمستقبلهم، بمصيرهم المجهول، بحاضرهم الذي غابت عنه الألوان، أتفرَّس في وجوههم، وأراقب تحرُّكاتهم، يراودني سؤالٌ لا أملك الإجابة عنه: ما ذنبهم ليعيشوا دونما ألوانٍ أو أحلام؟ ويمتلئ قلبي حسرةً عليهم، حينما أفكِّر أننا نرسلهم إلى المدارس ليكملوا تعليمهم في ظلِّ جائحةٍ ربَّما لن يعيشوا طوال عمرهم القادم مثيلاً لها، جائحةٍ أرعبت البشرية جمعاء وأوقفت مسيرة الحياة برمَّتها، نرسلهم والقلق يتربَّص بنا كآباء وأمَّهات ومدرّسين ومربِّين، خوفاً من العدوى وانتشار المرض، في مدارس غير مهيَّأة وغير مجهَّزة للتَّعامل مع هذا الوباء لاسيما بوجود الأعداد الهائلة للتَّلاميذ في الصَّف الواحد، وفي غياب الرَّقابة الحقيقية والفعَّالة من قبل الوزارة المعنية على مختلف أساليب النَّظافة وسبل التَّباعد وحتى آلية التَّعامل مع الحالات المصابة، فكلُّ ما يُعلن عنه مجرَّد أقوالٍ يجب أن تُعلن للإعلام فقط، بينما الواقع الحي والمعيش يصرخ بالعكس تماماً، فلا المدارس نظيفة ولا مهيَّأة، ولا أعداد التَّلاميذ على أرض الواقع كما تمَّ تصويرها، ولا وجودٌ فعَّالٌ لمن تمّت تسميتهم (مشرفون صحيّون) فُرِضَ عليهم متابعة الوضع الصِّحي بشكلٍ يومي، كلُّ ما يتمُّ القيام به هو إرسال التِّلميذ المشكوك بأمره إلى مراكز الصِّحة المدرسية التي تقوم بفحصه كيفما اتَّفق لتقول له: (وضعك سليم، أو ما تعانيه مجرَّد نوبة كريب عادية في مثل هذه الفترة من السَّنة، فلتجلس بضعة أيامٍ في بيتك ثم تعود… إلخ). وبالتالي فكلُّ الإحصائيات التي تتمُّ طباعتها على الورق ما هي إلاّ إحصائياتٌ وهميةٌ لا تُحاكي الواقع أبداً، وكلُّ هذا مقابل استمرار العملية التَّعليمية التي تعاني أساساً من مشاكل عدَّة لا تقتصر فقط على نقص الكوادر التَّدريسية، ولا مجال لطرحها هنا، ما يزيد من قلقنا جميعاً على فلذات أكبادنا، ويضعنا في موقفٍ لا نُحسد عليه، فويلنا إن أرسلناهم إلى المدارس، وويلنا إن تركناهم في البيوت – هذا إن تمكَّنا من ذلك بحكم أنَّ غالبيتنا من الموظَّفين المجبرين على الخروج للعمل، وما من أحدٍ بإمكانه أن يرعى الأطفال في غيابنا –
كنتُ من المحظوظين الذين وجدوا من يساندهم بعض الوقت حين غيَّبت ابنتي عن المدرسة مدَّةً من الزَّمن، بعد أن علمت بوجود حالاتٍ وإصاباتٍ في مدرستها، غير أن الوضع لم يجعلني أشعر بالرَّاحة، فأن تجلس الطِّفلة في البيت في وقتٍ يأخذ زملاؤها دروساً ليس بالأمر الجيد ولا المنطقي، وبالرَّغم من أنِّي أخذت على عاتقي أن أعوِّض لها ما فاتها، إلاّ أن المنطق الطَّبيعي أن تكون في مكانها الصَّحيح بين أقرانها، ومهما ساعدتها لن أكون كمعلِّمتها التي تعرف كيفية إيصال الأفكار بالشَّكل العلمي الأسلم والأكثر دقَّةً، فما كان مني إلاّ أن أعدتها إلى المدرسة والقلق ما زال ينهشني، وكأنني أقف على حافَّة هاويةٍ كيفما التفتُّ سأسقط، لا بقاؤها في البيت صحيح، ولا إرسالها إلى المدرسة صحيح، وها هي ذي الحيرة والخوف يتملَّكانني، حالي حال معظم الأهل، ما يزيد هذا الشُّعور أني أعمل في المجال نفسه وأرى ما لا يراه غيري.
تكمن المشكلة في القرارات الارتجالية الصَّادرة عن المعنيين في وزارة الترَّبية، والتي لا علاقة لها بما يجري على أرض الواقع، بل ظهرت وكأنها كما يقال باللَّهجة المحكية (جكر وتحدِّي)، رغم كلِّ التَّحذيرات والتَّنبيهات من خطورة الوضع ومن خشية تفاقمه في المرحلة المقبلة، وكأنَّ لسان حال أولئك المعنيين يقول: (قد حان دور الكوادر التَّدريسية والتَّلاميذ ليدفعوا أرواحهم ثمناً لقراراتنا الاعتباطية!)، فمن أعطاكم الحق في أن تسلبوا منا أرواحنا؟ ومن نصَّبكم لتُجهزوا على ما تبقى لنا من أملٍ في ظلِّ هذه الظُّروف المعيشية التي يحياها السُّوريون كافَّةً؟ وما هو موقفكم تجاه أمٍّ ثكلى بابنها، تلميذاً كان أو مدرِّساً، فارق الحياة نتيجة طيشكم وغبائكم؟ لا يزال أمامكم متَّسعٌ من الوقت كي تنظروا في حال هذه الأجيال وتلك الأرواح قبل أن تجعلونا نخسر المزيد والمزيد، وأنتم تتربَّعون على عروشكم بكلِّ أنانيةٍ وانعدامٍ للمسؤولية الملقاة على عاتقكم!