خطوط حمراء في محو الأميّة.. وهويّة المثّقف المزورة!
أنس أبو فخر:
الأميّة ومحو الأميّة، مصطلحان متلازمان ولهما انتشارٌ واسعٌ في الدول النامية أو دول العالم الثالث، ويُقصد بالأميّة عدم امتلاك الفرد في المجتمع مهارة القراءة والكتابة، أمّا معالجة هذا الأمر فيُطلق عليه مصطلح محو الأميّة، وقد شهدت العقود الماضية أشكالاً وأنواعاً اندرجت تحت مسمّى الأميّة، إذ إنّها لم تعدْ مقتصرة على الكتابة والقراءة، بل أصبحت عدم القدرة على استخدام الحاسوب تعتبر أُميّة، كذلك عدم استخدام البرامج والتقانات الحديثة ومهارات التحدّث في اللغة الإنكليزية تحديداً وغيرها من اللغات، وبالتالي بدأت دائرة تعريف الإنسان الأميّ تتّسع أكثر بالتزامن مع ازدياد صعوبة محوها أكثر وأكثر لا سيما عند الجيل ما بعد سن الشباب في الهرم البشري، هذا في المفهوم العام والسطحي للأمر. ولكن إذا ما تعمّقنا أكثر في البُعد الثالث لمفهوم الأميّة في سورية، فإننا نجد أشكالاً جديدة ومختلفة لا يجري الحديث عنها كثيراً، وبعضها يُمنع محوه، وأستطيع تسمية هذه الأشكال بالأُميّة السياسية، الاقتصادية، الثقافية والتاريخية، وليسَ مُستغرباً لو قلت إنّنا في سورية من الأفضل أن نبقى أُميّين به.
الأُميّة السياسيّة.. خط أحمر
مهما اختلفت التسميات والأشكال حول الأُميّة تبقى الأميّة السياسية هي الأكثر خطورة في سورية، فللأسف بعد التحرّر من المحتل الفرنسي وما سبقه من نشاط سياسيّ منذ مطلع القرن الماضي، وما نتج عن تلك المرحلة من ازدهار في الحياة السياسيّة، لتنوّع الأحزاب والجمعيّات الوطنية والقومية، بدأت تهتز مع مرحلة عدم الاستقرار التي كان عنصر الانقلابات العسكرية العلامة المُميّزة لها، لكن ومع كل هذا لم تنعدم الحياة السياسية والفكرية كما حالها اليوم، وقد بدأت تنهار فعليّاً بعد الوحدة بين سورية ومصر وبداية عصر الاستخبارات، وصولاً إلى التعديلات الدستورية منذ نصف قرن مضى أُعدمت فيها الحياة الحزبية بشكل قانونيّ من خلال المادة 8: الحزب الحاكم والقائد للدولة والمجتمع (حزب البعث العربي الاشتراكي) الذي استمر على هذا الحال إلى عام 2012 تقريباً حين حدث تعديل في المادة الثامنة للدستور السوريّ وأُفسحت الساحة قليلاً لباقي الأحزاب وفق قيود بعضها مُعلن وما خفي منها أعظم.
النتيجة تتجلّى في الأجيال التي عاشت حقبة زمنية تجاوزت الأربعين عاماً على نهج سياسيّ ثابت ولا شريك له، وباتت هذه الأجيال تتمتع بأُميّة سياسية واضحة، وقد أدّى ذلك إلى غياب طبقة النخبة والمفكرين في صفوف الشعب بعد الحراك الشعبي عام 2011 مما سهّل عملية جرف مجرى هذا الحراك لصالح جهات خارجية كانت نتائجها تدميرية صرفة، ومن النتائج القريبة والملموسة لما أعنيه بالأُميّة السياسية هو ما يحدث في الانتخابات منذ عقدٍ وحتى اليوم، إذ لا تشاهد ممثلين حقيقيين للأحزاب السياسية المرخّصة، ولا تجد مُتعة حقيقة في الانتخابات الرئاسية حتى ولو كانت على رئاسة المجلس البلدي في قرية معيّنة.
قد تظنُّ أن في هذا الكلام مبالغة، ولكن استطاعت سورية أن تمحو الأميّة بشكل إن لم يكن كاملاً في البلاد ففي غالبيتها، فهل تغيّر في حياة السوريّ شيء؟ لم يلمس أي تغيير يذكر! فما نفع تعلّم مهارات القراءة والكتابة وليس أمامك منصّة تُقدّم من خلالها نتائج ما تعلّمته! حتى وبعد التعديل الأخير لم نلمس التغيير الحقيقيّ في ميدان السياسة، وذلك بسبب أُميّة الفرد في هذا الميدان تحديداً، فجميع الأحزاب السياسية عبارة عن (ديكور) ليكتمل أثاث المنزل السوري، وأدلُّ على ذلك في غياب الجانب الخدماتي في هذه الأحزاب، واقتصار عملها على الشعارات والتنديدات والاستنكارات. وبالنظر إلى لبنان تجد العكس تماماً، فالحياة السياسية في ازدهار دائم وعمل الأحزاب والتيارات السياسية فيها على قدم وساق، وبالتالي تجد المواطن اللبناني مثقّفاً سياسياً أضعاف جاره السوري، الأميّ فيها، ويعلم اللبناني ما له وما عليه وكيف ينتخب نائبه في البرلمان وكيف يخدمه حزبه والعكس صحيح.
الأُميّة الاقتصادية.. خطّ أحمر أيضاً!!
لأني ذكرت الواقع والحياة اللبنانية مثالاً عن الثقافة السياسية في المجتمع، أعود وأضربها مثالاً أيضاً في الناحية الاقتصادية، فقد استوقفني أمر في العام الماضي عند اندلاع الثورة في لبنان، وهو دراية اللبنانيّ باقتصاد بلاده وأموالها وما فيها من خيرات وإمكانيات وحتى قدرتهم على وضع حلول اقتصادية تعالج أزمتهم، وهذا حقيقة أمر مغيّب في سورية، فالسوريّ يمتلك المعلومات الكافية عن الاقتصاد في إيطاليا مثلاً ولا يمتلك أدنى المعلومات عن اقتصاد بلاده وما فيها من خيرات، أوليس هذا نوعاً من الأميّة؟!
ولغاية في نفس يعقوب يبقى السوري يقرأ عن إمكانيات بلاده واقتصادها في الصحف والمجلّات والمواقع الأجنبية، ويندهش لمعرفة ثروة بلاده النفطية وحقول الغاز فيها وكميات الفوسفات وغيرها ومقومات بلاده في ميدان الطاقة البديلة والقوّة الصناعية والزراعية فيها، ولكنّه إن حدثت حرب أو أزمة في بلاده لا يمكنه التدخّل والنقاش وتقديم الحلول حاله حال البلاد المجاور بعضها له والبعيدة عنه، فهو في الواقع جاهلٌ وربما قد تنتهي به محاولة محوه لهذه الأمية إلى السجن أو المساءلة، لذلك وفي أيّ أزمة تستطيع طبقة البرجوازية الطفيلية كما أسماها ماركس أو تجّار الحرب أن توهم الشعب بأنها حملٌ وديع ولا يوجد حلول جذرية وبديلة لإنقاذه، بينما تنعم هي بسرقته أكثر وتجني أضعاف ثروتها على حساب قوته اليومي، وفي النهاية لا يجد هذا الشعب، الأميّ، سوى القول إن هذه الفئة تجار أزمات وحروب قد سببوا ما حدث من مآسٍ، وليتهم يقولون إن جهلنا في اقتصاد بلادنا هو السبب الأساسي.
الأُميّة الثقافية.. وهوية المثقف المزوّرة!!
لعلّ هذا النوع من الأميّة هو الأكثر نعومةً، كذلك هو غير مقتصر على السوريين فقط، فهذا له انتشار من نوعٍ آخر ساهم بذلك عنصر التقليد الأعمى خاصة على الفيس بوك، وله سمات وخصائص تستطيع أن تساعدك في معرفتها مثل شرب القهوة دون سكر أو تدخين نوع مُحدّد من السجائر أو طريقة اللباس والجلوس وغيرها من القشور، فللأسف تكثر -وخاصة في بلادنا العربية- المكتبات المنزلية أو مجلدات الكتب الإلكترونية على الحواسيب ولكن من غير قراءة عميقة لها، فيعتمد الشاب أو الفتاة في مجتمعاتنا على أن يعكس صورة يتمنّاها عن نفسه للمحيط حوله من خلال ممارسته لأساليب حياتيّة ونشاطات ثقافية وفكرية، كاقتنائه كتباً أو روايات ومسرحيات وقراءتها في محاولة لصنع هوية مثقف، فهو يعتقد أن الثقافة تكمن في كثرة المطالعة وقراءة الكتب، وبالفعل هذا جزء أساسي تكتسب الثقافة منه، ولكن ثمّة من قرأ كتب الدين فأحسن للناس، وثمّة من تشدّد وتطرّف وثمّة من آمن ومن ألحد، بالرغم من قراءتهم للكتب والمصادر ذاتها، وبالتالي نجد أن القراءة وحدها لا تكفي لتكون مثقفاً وتبني لنفسك ركيزةً أدبية ومعرفية، فكثيرون في مجتمعنا يقرؤون الكتب ويلتزمون بلباس يدلّ عليهم كمثقفين مع التزامهم أيضاً بكل الأشكال الدّالة عليهم مثل القهوة أو السجائر والمقاهي، وفي نهاية المطاف وعند أول حديث معهم تكتشف اضمحلال أدبهم وأفكارهم وتزمّتهم، فالتجارب والمواقف كفيلة بغربلتهم عن سواهم من المثقفين الحقيقيين، فالمثقف ليس بالضرورة أن يكون المتعلّم أو القارئ، قد يكون أُميّاً بما تعنيه هذه الكلمة من معنى لكنّه مستمعٌ بارع، حكيم ومتواضع، متصالح مع ذاته ومقدّرٌ لما قدمه لنفسه ولمجتمعه.