لا أزال أميةً وجاهلة

إيناس ونوس:

أمضيتُ سنواتٍ طوالاً من عمري في الدِّراسة والتَّحصيل العلمي والأكاديمي، رغبةً منِّي بأن أكون جديرةً بالحياة وملمَّةً بكلِّ مفاصل اختصاصي، وفعلاً نلت أعلى المراتب العلمية وحصلت على الشَّهادات التي طالما حلمت بها، وصرت ما إن أوجد في مكان حتى أصبح محطَّ الأنظار بحكم إلمامي ومعرفتي ومقدرتي على النِّقاش في هذا المجال، ما دفعني مجدَّداً للبحث من خلال الخروج من هذا الإطار والاهتمام بشؤونٍ أخرى كي أمتلك من المعرفة المزيد، الأمر الذي كان يُشعرني مع كلِّ معرفةٍ جديدةٍ بالعطش والتَّوق لكلِّ ما هو جديد عليّ، ومرَّت الأيام وظننتُ نفسي أنِّي امتلكتُ مفاتيح عدَّة مجالاتٍ وبتُّ أفهمهما بشكلٍ جيدٍ مقبول.

منذ فترة، تم تعديل بعض القوانين في بلادي، فقمت بالاطِّلاع عليها كي أكمل ما بدأته سابقاً، لاسيما أنِّي معنيةٌ بشكلٍ أو بآخر ببعض تلك القوانين مثلي مثل أيّ مواطن، إضافةً إلى أني عالقةً في مشكلةٍ قانونيةٍ ويجب عليَّ أن أعرف كلَّ التَّفاصيل كي أتمكَّن من الوصول إلى حقِّي، وحينما ولجت عالم القانون ورقياً، اعتقدت أنِّي ألممت بكلِّ المداخل والمخارج التي تعنيني، إلاَّ ان طبيعة العمل القانوني تحتاج إلى الاستعانة بمُحام، فهو الفارس في هذا المجال، وحينما كنت في جلسةٍ مع المحامي لمعرفة كيفية سير الأمور في القضية التي تخصُّني، وجدت أنَّ العديد من التَّفاصيل الصَّغيرة والكبيرة لم تكن متجلِّيةً في النَّص الورقي الذي اطَّلعتُ عليه، ففي كلِّ مجال توجد استئناءاتٌ، وتوجد نقطةٌ من هنا وأخرى من هناك لا يعلم بها إلاَّ من يعيش خضمَّها تماماً.

أنهينا الجلسة وخرجت راغبةً بالسَّير في شوارع مدينتي الأحبِّ على قلبي وأنا أفكر، ياااااااااه! كم ظننتُ نفسي ملمَّةً بكلِّ شيء، وكم عملت وتعبت وجاهدت حتى أتمكَّن من الحصول على المعرفة، وبعد كلِّ هذا العمر، وبعد كلِّ تلك الجهود أكتشف أني ما زلت أميّةً، جاهلةً بالكثير الآخر، وفيما أتابع المسير، استوقفني مشهد أمٍّ تتحاور مع أطفالها يناقشونها وتناقشهم، توضِّح لهم كل ما يتساءلون عنه، وما لفتني أكثر بعض تساؤلاتهم الأكبر من عمرهم ووعيهم، ما أثار حماستي لأن أنصت لهم فأرى كيف سيكون جواب أمهم، غير أن المفاجأة كانت حينما أخذت الأم تجيب عن تلك التَّساؤلات من خلال تبسيطها للأفكار، وإتيانها بأمثلةٍ تتوافق وأعمارهم وقدراتهم العقلية والنَّفسية ومستوى الإدراك لديهم، فكانت المفاجأة الثانية خلال بضع ساعات، فما جرى بين هذه الأم وأطفالها يعادل عشرات الكتب التي قرأتها عن التَّربية والتي كنتُ قد تبنَّيت أفكارها وطروحاتها.

هذه هي الحياة، أكبر مدرِّسٍ، كلُّ موقفٍ فيها درسٌ كاملٌ متكاملٌ بحدِّ ذاته، نكتشف معه أننا لا نزال أميين رغم كلِّ ما يمكن لنا أن نحصِّله من معارف، فمفهوم الأميّة لم يعد كما كان معروفاً في السَّابق بارتباطه فقط بتعلُّم آليات القراءة والكتابة والحساب، بل صار هذا المفهوم أوسع وأشمل، لأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمختلف مفاصل حياتنا، ومهما اعتقدنا أننا امتلكنا من المعرفة والعلم الكثير، نرى أنفسنا أميين في مجالاتٍ أخرى، وبحاجةٍ إلى من يمدُّ لنا يد العون ليعلِّمنا بعض المبادئ الأولية فيها، وأن المعادلة الأزلية التي كانت سابقاً بين الأمية والتَّحصيل العلمي باتت غير صحيحة، فكم يوجد بيننا من حملة الشَّهادات الذين يثبتون لنا أميَّتهم وعدم معرفتهم سواء في نواحي الحياة المختلفة، أو حتى في مجالات دراستهم أكثر بكثير من آخرين لم تُتحْ لهم الفرصة لأن ينالوا بعضاً من التَّعليم!!! وكذلك العكس، إذ يعيش بيننا أيضاً، من لا يعرفون كيفية كتابة الحروف، أو عملية جمع رقمين على الورق، بينما نجدهم موسوعةً متنقِّلةً في الحياة ننهل منهم متى استطعنا ذلك.

نعم، هذه هي الحياة، مع كلِّ صباحٍ نكتشف شيئاً جديداً، وندرك نقصاً إضافياً في ذواتنا، وما علينا إلاَّ أن نمتلك القرار، فإما أن نبقى على حالنا، أميين، جهلة، أو أن نسعى لتطوير مقدراتنا ومعرفتنا لنصل إلى مرحلة النُّضج الكامل والوعي الصَّحيح واللَّازم لنكون حقَّاً جديرين بهذه الحياة.

العدد 1102 - 03/4/2024