(وحبوب سنبلة تجف…. ستملأ الوادي سنابل)

إيناس ونوس:

يقول الأديب محمد الماغوط ما معناه: ( يولد الإنسان حرَّاً أوَّل خمس ثوانِ من عمره، ويعيش طيلة حياته ليحارب ما فُرِض عليه) هذه المفروضات المجتمعية أو السِّياسية أو الدِّينية تُفرض عليه قسراً ولا إرادة له باختيار أيٍّ منها، ابتداءً بالاسم والنَّسب والمعتقد الدِّيني والانتماء العرقي أو الجغرافي ووو… إلخ والقائمة تطول، ومنذ نعومة أظفاره يبدأ الاصطدام بالعديد منها في محاولةٍ من المحيط لأن يلبس اللَّبوس ذاته المتعارف عليه، فإن ظهرت عليه بوادر الرَّفض أو التَّمرد وُصِف بالمشاكس والمُتعِب وتعدَّدت محاولات وأساليب ثنيه عمَّا يفكِّر به، فإن استكان صار إنساناً محترماً ذا مكانة، أمَّا غير ذلك فإنَّه يُلاقى بالنَّبذ والنُّفور، والأمثلة على ذلك لا تُعدُّ ولا تُحصى، فكم من طفلةٍ صغيرةٍ مُنعت من اللَّعب مع أقرانها من الفتيان بذريعة العيب الاجتماعي والأخلاقي، وكم من موهوبٍ قصقصت جناحاه بذريعة المحظور الدِّيني والمجتمعي، وكم من مخترعٍ تمَّ نفيه من البلاد وربَّما من الحياة كلِّها وتمَّ اتِّهامه بالخيانة والعمالة فقط لأنه يمتلك عقلاً أراد تشغيله بما ينفع الجميع، فيزعزع ثبات البعض ممَّن يهيمنون على كلِّ شيء!
المؤسف والمؤلم حقيقةً، أنَّنا من الشُّعوب المعتادة على النَّماذج الجاهزة، ولسنا على استعدادٍ للابتكار والخلق، رافضين أيَّ جديدٍ مهما كان خوفاً من أن يحمل لنا المجهول ما يزعزع الثَّبات الذي ترعرعنا عليه، نشأنا على مبدأ المثل الشَّعبي (النحس اللي بتعرفو أحسن من السعد اللي رح تتعرف عليه)، هذه المقولة التي تحمل الكثير من الرَّسائل المبطَّنة لإيقاف العقل عن العمل بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، ويتم تلقينها شيئاً فشيئاً لتصبح لاحقاً منهجاً ينتهجه الشَّخص في مختلف جوانب حياته، ما يعيقه عن النُّهوض بفكره ولو بأبسط الأمور، وإذا ما فكَّر بأن ينتفض على كلِّ الموروث السَّابق سيفاجأ بالصَّد والمنع والرَّفض، وفي كلِّ مرَّة سيلتقي بأشخاصٍ يتولُّون هذه المهمة، ومن المؤكَّد أن الأمر لا يقتصر على النَّواحي الاجتماعية أو العلمية أو العملية أو الدِّينية فقط، بل أيضاً يشمل الحياة السِّياسية، فعلى الرَّغم من كثرة الأحزاب السِّياسية في البلاد إلاَّ أنَّها جميعاً تنتهج النَّهج ذاته، فإما أن يكون أتباعها صورةً واحدةً وإمِّا إعلان الحرب على من يبدي بعض الاختلاف.
لطالما تمَّ العمل على تعزيز تابوهات (الثَّالوث المحرَّم) ومنع الناس من الاقتراب منها، وها نحن نجدها اليوم تتماهى أكثر فأكثر بعد كلِّ ما مرَّ بنا، والذي كان من المفترض به أن يُنير بعض الضَّوء في عقولنا ونمطية تفكيرنا، غير أن العملية انعكست للأسوأ، وباتت المحظورات والممنوعات أكثر بكثير، بل باتت على العلن ودون خجلٍ أو مواربة، وازداد العمل على إلهاء النَّاس عن التَّفكير بأي شيءٍ من خلال دفعهم للسَّعي الحثيث خلف لقمة العيش دون الوصول إليها، كما يتمُّ التَّوجه لجيل الشَّباب الذي يحمل مقوِّمات التَّغيير والتَّطوير، لتوجيهه نحو الأمور المحروم منها(جنسياً تحديداً) بهدف إبعاده قدر المستطاع عن إعمال عقله والدُّخول في عملية بناء وتطوير ذاته أوَّلاً لينتقل من خلالها للمجتمع ككل، وما يزيد الطِّين بللاً الانسياق المذهل من قبل المجموع (وتحديداً من كنا نراهم متنوِّرين) خلف تلك التَّابوهات والمحظورات، وترسيخها أكثر فأكثر، سواء على الصَّعيد الشَّخصي أو على الصَّعيد الجمعي كاملاً، غير أنَّهم جابهوا قول الأديب محمَّد الماغوط: (الإنسان العربي سياسياً كان أم مفكِّراً أم صحافياً أم عاشقاً لا يظهر على حقيقته إلا في الحمَّام)، وبات كلُّ شيءٍ علانيةً.
غير أنَّنا لا نزال متمسِّكين بالأمل بأن ننتفض على كلِّ تلك القيود، وهذا يتطلَّب منَّا وعياً بخطورة الوضع الرَّاهن، كما يحتاج لبعض التَّمرد انطلاقاً من أنفسنا وبيوتنا وأولادنا لنتمكَّن من وضع لبنة الأساس في عملية التَّغيير والعيش الكريم، ولا بدَّ من دفع الثَّمن الباهظ أمام كلِّ هذه التَّحدِّيات، فإن كنَّا ندفع الثَّمن غالياً جدَّاً بسبب كلِّ ما هو مفروضٌ علينا، فالأفضل أن ندفعه لنصل إلى ما نرغبه ونريده ونقتنع به، شريطة ألاَّ نيأس ونتقاعس، بل أن نمتلك روح التَّحدي والجرأة والتَّصميم على أهدافنا، لنصل إلى ما نرغبه من حياةٍ حرَّةٍ ونكون حقَّاً أناساً أحراراً بكلِّ ما للكلمة من معنى.

العدد 1102 - 03/4/2024