التراث بين الحاضر والماضي، وانفصامٌ يُعيق التكيّف مع العصرِ الجديد

أنس أبو فخر:

يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أنّ الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبيعته، أيّ من المستحيل أن يتمكّن الإنسان من الحياة بشكلٍ منفصل عن الجماعة أو القبيلة، ولا يمكن لفرد في المجتمع أن يُشيّد حضارة لوحده، فعنصر الحضارة وبناءها عنصر مرتبط مع الجماعة والإتفاق والانسجام وما ينتجُ عنه من ثقافة اجتماعية محدودة الأبعاد، مقتصرة على الجماعة عينها وتحمل في طيّاتها أساليب الحياة المتفق عليها وسلوك الجماعة والفرد فيها، وهذا ما يرسم شكل العادات والتقاليد فيها والتي تبدأ بفعل عفويّ لاقى استحسان الجميع وأخذ يتكرّر حتى أصبح عادة تتوارثها الأجيال، حتى أن قيامك بتكرار تصرّف أو فعل ما لثلاث مرات سيُصبح عادة طبيعية ولن تفكّر فيه قبل القيام به، وبالتالي فإن العادات والتقاليد هي فكرة جماعية لا يمكن لفرد واحد أن يُنشئها وبالمقابل لا يمكن لفرد واحد أن يُلغيها، وهذا الالتصاق يُحدّد هويّة المجتمع وسلوكه الذي يعكس الحالة الفكرية والفنية والثقافية لأي مجتمع، فالمجتمعات المُغلقة نجد فيها تحفّظاً شديداً على الحياة الفنية، والعكس نجده في المجتمعات المنفتحة ثقافياً وفكرياً والتي نجد انعدام الغموض وبساطة الفن فيها.

وهذه العادات والتقاليد التي تصبح مقترنة بالمجتمع تُدعى تراثاً، والتراث والعادات والتقاليد وجهان لعملة واحدة ألا وهي هوية المجتمع الثقافية والفنية والأدبية، كذلك هي الآثار الحضارية والعمرانية للمجتمع، وبالتالي هي جزء ملتصق بكل أفراده وليس من السهل الخروج منها أو تعديلها أو تطويرها بما يتلاءم وصيرورة المجتمعات، لأن كل مجتمع يبقى في حالة خوف وقلق من التغيير والتجديد لكل ما هو مجهول في نظره، الأمر الذي يخلق حالة من الصراع الفكري بين أفراده، ويضع البعض في مواجهة حادّة وشرسة أمام المجتمع ككل.

ونستطيع التمييز بين التراث والعادات الإيجابية في المجتمع، والعادات التي لابدّ للمجتمع من تعديلها وربما إزالتها أحياناً، من خلال النظر لمدى تأثّرها بحركة التقدم والتطور لديه، فالتراث بمفهومه العام لا يمكن له أن يكون بمثابة العصى التي تعيق سير عجلة المجتمع، بدليل أن تطور الأغنية العربية مرَّ بمراحل وأزمنة مختلفة لم تؤذِ أو تشوّه الفن، بغض النظر عن بعض الحالات الشّاذة خاصة في عصر المال هذا، لكنّنا إلى اليوم نسمع الأغنية الراقية لحناً وكلمات، ولم يعد بالضرورة أن تكون مدّة الأغنية نصف ساعة مثل أغاني الزمن الجميل كأم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهم، إذ أصبحت الأغنية ذات وقت أقصر مع محافظتها على رونقها وماهيتها، وهذا ينطبق على مزايا العمران واللباس والسلوك العشائري وغيره.

أمّا التراث والعادات على سبيل المثال كمهر الزواج أو عادات الضيافة القديمة باعتبارها عنصر تراث وهويّة مكانية وإرث اجتماعي، هذه التي نقصدها بالعادات والتقاليد التي بحاجة للتعديل وتقبّل التغيير فيها لأنها أصبحت في زمننا هذا عنصر إرباك وثقلٍ على المعنيين فيها.

ومثلما يُصاب الإنسان بمرضٍ نفسيّ يدعى(انفصام الشخصية) يوقعه ضحية الحياة في شخصيتن منفصلتين تماماً، كذلك يقع المجتمع ونتيجة تغيّر العصر ضحية هذا الإنفصام، ما بين محافظته على إرثه وبين التجدّد ومجاراة العصر الذي باتت متطلباته أبسط من ذي قبل. كذلك كثرة الالتزامات اتجاه العمل وتغيير وجه العلاقات الإجتماعية نظراً لتطور وتقدم التكنلوجيا وأدل على ذلك الحج مثلاً، ففي السابق وليس بالبعيد كثيراً منذ مائة عام كان الحج بمثابة سفرٍ يشوبه التعب والمخاطر والوقت الطويل، وعند عودة الحجّاج من الحرم المكيّ كانت تقام الأفراح والليالي الملاح احتفالاً بعودتهم سالمين، بينما اليوم أصبح بإمكاننا السفر إلى بلاد أبعد من الحرمين الشريفين بوقت لا يتجاوز اليوم الواحد عابرين فوق البحار والمحيطات بواسطة طائرة مجهّزة بكل ما يلزم من غذاء ودواء وحتى شبكة اتصال لا سلكية )WiFi(، وبالتالي فقد انتهت مراسم استقبال الحجّاج والمسافرين.

إن هذا لا يعني تخلّي المجتمع عن إرثه وعاداته، إنما تطويرها وتقبّل الحداثة وعصر السرعة عليها والاحتفاظ بها ماضياً مفعماً وتراثاً شعبياً يعود إلى تفاصيله وجوهره ليجد الإجابة عن أيّ سؤال عندما يصبح أمام منعطفٍ تاريخيّ.

ولكنّ الانفصام الذي يحدث هو نقل المجتمع عاداته وتراثه إلى العصر الجديد دون التغيير عليها، مثل ما يحدث على السوشال ميديا التي أصبحت يوماً بعد يوم ترسم عادات وتقاليد جديدة للجيل القادم، فالمجتمع في السابق كان قرية صغيرة واليوم أصبح داخل قرية صغيرة تزخم بالإختلافات الفكرية والفنية والثقافية، وما يزال يتعامل مع مواقفه اليومية في شبكات التواصل الإجتماعي بالإسلوب الذي كان يقوم به قبلها، وهذا ما أراه عنصراً يُهدّد سلامة المجتمع ولكن كيف؟

الحقيقة أن أزمة كورونا وما قبلها من أزمات وأوبئة وحروب، أثّرت وبشكل مباشر على الموروثات الإجتماعية وباتت خصماً شرساً لها، ففي السابق كانت الأعراس والأتراح تأخذ الشكل الجماعي في التعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع، لكن الاستمرار عليها اليوم يُشكّل خطراً على صحة المجتمع في انتشار الفيروس، وقد لاحظنا هذا من خلال القرارات التي كانت تصدر عن الحكومات في منع التجمعات لأي سببٍ كان، وبالتالي باتت التعازي والمباركات تُقبل عن طريق الشبكة العنكبوتية عوضاً عن الحضور، وهذا ما يعتبره البعض انتقاصاً في الواجب اتجاه صاحب المناسبة!!، كذلك السلام والزيارات والبروتوكلات الاجتماعية التي يجب الحدّ منها وتعديلها بما يتلاءم وواقع الانسان الاقتصادي أيضاً.

وينظر الأسلاف والآباء للجيل الجديد نظرة العنصر غير المحافظ، بل والمُهدّد لما حافظوا عليه من تراث وعادات اجتماعية، بل ويروا في بعضها أنها بقرات مقدّسة وخطوط حمراء يمنع تجاوزها وتخطيها، وهذا يجعل الإنقسام يتّسع بين الشريحتين بما يُسمّى بصراع الأجيال، فمن الصعب إقناع من عاش أجواء الأعياد بتفاصيلها البسيطة والتي تحتّم عليك الذهاب لمنازل الأقارب والأصدقاء وسائر من حولك بمعايدتهم عن بعد، أو تدعو لمناسبة الفرح من خلال منبرك الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تغيير قصّات الشعر والأزياء وتصاميم المنازل وإلى ما هناك من مزايا حياتية واجتماعية، والحقيقة أننا لا نستطيع الحياة في زمنين متناقضين كأن نضع المكييف في بيت من حجر!، ولا بدّ علينا من النظر في العمق والجوهر اتجاه أي موقف أو عادة توارثناها من الجيل السابق، وهذا لا يعني رفضنا لها أو اعتبارها عنصر تخلّف، ولكن على المجتمع أن يفتح صفحات بيضاء يدوّن عليها ماضيه وتراثه كمصدر إلهام ومحافظة وعنصر احترام لمن سبقه، والتكيّف مع العصر الحالي بما يتناسب مع الإمكانيات ومتطلبات هذا العصر، وبدون تقبّل هذا الأمر سنبقى نعيش في ماضٍ حاضرٍ يعيق تقدّمنا للأمام، في وقت محالٌ العودة فيه إلى الخلف، ممّا يوقعنا في شرخ فكري وصراع جدلي وانفصام في بنية وعقلية المجتمع.

العدد 1102 - 03/4/2024