لا حضارة بدون تراث

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ أن لكل أمّة أو شعب تراثٌ يُعبّر عن تاريخه وثقافته وهويته، ويُميّزه عن غيره من الشعوب والأمم. ويتمثّل هذا التراث بالعادات والتقاليد الدينية والاجتماعية والأعياد التي تتناقلها الأجيال، كما ويشمل كل ما خلّفه لنا الأسلاف من مؤلفات أدبية وعلمية كالطب والفلك والرياضيات والفلسفات، إضافة إلى الأبنية والقلاع والأماكن الدينية وبعض المناطق الطبيعية المتميّزة بجمالها وتفرّدها، وكذلك مختلف أنواع الفنون كالرسم والنحت والموسيقى والغناء والرقص وحتى الأزياء الشعبية ممّا يُسمّى اليوم بالفلكلور. ويُعدُّ اللعب والأمثال الشعبية المتداولة والألغاز وقصص الأطفال أيضاً موروثات شعبية. ولا يفوتنا طبعاً أن الصناعات التقليدية والحرف اليدوية تندرج ضمن لائحة التراث.  

لقد شكّل التراث سابقاً ويُشكّل اليوم أحد أهم مقومات الحضارات المتعاقبة، لذامن الضروري الحفاظ على وجود تنوع ثقافي يُعزّز الوحدة والاختلاف والمواطنة وروح المشاركة لوجود قواسم مشتركة بين أبناء الشعب الواحد، مثلما يُعزّز الحوار بين الثقافات.

بالتأكيد أن تراث الشعوب قاطبة يتعرّض بقصد أو دون قصد للتحريف أو التشويه وحتى التدمير لتغيير معالم أو طمس هوية شعب ما خدمة لغايات وأهداف سياسية أو اقتصادية اجتماعية، وهذا ما تمّ خلال تاريخ البشرية، فنشوء الولايات المتحدة على أنقاض الهنود الحمر أنموذجاً يُشابه إلى حدٍّ ما قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين.

ونتيجة لما حدث عبر التاريخ من محاولة لطمس وتشويه ثقافات شعوب بقصد إحلال ثقافات جديدة ووافدة أحياناً تناسب مرامي مُحدثيّ التغيير، كان من الضرورة البحث في كيفية الحفاظ على هذا التراث بكل الوسائل المتاحةوترسيخ أهميته لدى الأجيال الصاعدة. لذا أخذت منظمة اليونسكو للتربية والثقافة والعلوم على عاتقها حماية التراث الإنساني في ظلّ ملاحظتها لما ذُكِر أعلاه إضافة لتعرّضه المتزايد إلى التدمير، ليس نتيجة عوامل التعرية والتآكل المعهودة وحسب، بل وأيضاً نتيجة تغيير الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تزيد من تفاقم الحالة(تغيّر المناخ) كونها تؤدي إلى نشوء ظواهر أكثر فداحة من حيث الضرر أو الدمار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تدهور أو اختفاء أي مادة من مواد التراث الثقافي أو الطبيعي يُعتبر إفقاراً وخيماً لتراث دول العالم كافّة، ولهذا تمّ في العام 1972 التوقيع على الاتفاقية الدولية لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي كأحد أهم الوسائل العالمية القليلة التي تربط بين حماية التراث الثقافي والطبيعي، وتُشدّد الاتفاقية على دور المجتمعات المحلية في الحفاظ على التراث وفهمه وتفسيره في إطار علمي ومنطقي باعتباره جوهر التنمية المُستدامة وأحد أهم عوامل وأسباب تطور الدول والمجتمعات.

وإذا ما اتجهنا نحو الفنون الآداب بمختلف اختصاصاتها واتجاهاتها الفكرية والفلسفية مثلاً، نتلمّس التشويه الكبير الذي طال تراثها العريق، وكان لعالمنا العربي حصّته من التشويه الفني والأدبي والتاريخي وحتى الجغرافي، حيث تمّ إغراقه في العقود الأخيرة بأنواع شتى من الفنون والموسيقى والآداب الهابطة التي لا تُعبّر بأيّ شكل من الأشكال عن هويتنا الخاصة بنا كمجتمعات يمتلك بعضها تنوعاً عرقياً ودينياً واجتماعياً يمنحها مختلف عوامل التطور والارتقاء لو تمّ حقيقة الحفاظ على التراث المتعلّق بكل نوع من جهة، ومحاولة اندماجه مع غيره من الأنواع الأخرى من جهة ثانية فينتج عن الجميع أبهى وأجمل ما يمكن.

ولم يقتصر الأمر على هذه الجوانب فقط، بل طال التشويه كذلك التراث الديني(جميع الأديان بطوائفها ومللها) الذي يُشكّل هوية بارزة وأساسية لشعوب تلك المنطقة، وذلك من خلال نشوء تيارات دينية متطرّفة مدعوم بعضها أو غالبيتها من دول خارجية لها أهداف ومصالح سياسية واقتصادية، حيث ترفض تلك التيارات المتطرّفة رفضاً مُطلقاً الآخر جملة وتفصيلاً، مثلما ترفض متطلبات تطور الحياة وقوانينها الاجتماعية والثقافية وحتى الدينية التي لا يمكن بشكل من الأشكال أن تبقى محتفظة بالآليات والمفاهيم والتقاليد التي كانت سائدة منذ قرون خلت بما انعكس سلباً على الحياة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها التشريعية والقانونية والعلمية والسياسية حين تمّ فرض زعماء تلك التيارات كقادة سياسيين في الدولة والمجتمع، وهذا ما ابتليت به غالبية الدول الاسلامية منذ مطلع القرن الماضي وصولاً لما نحن عليه اليوم من حروب ونزاعات تصبُّ مجملها في خانة الاتجاه المتطرف الداعي إلى إحياء التراث الديني بشكل مشوّه وقاتل للإنسان والحياة.

لا شكّ أن التشبّث بتراث مشوّه ومبتور عن سياقه الطبيعي يُعيق ويُعرقل كل إمكانية للتطوّر وتقدّم الشعوب باتجاه الارتقاء لمستوى صنع حضارة خاصّة بها تنهل منها باقي الحضارات أسوة بالحضارة الإسلامية التي ازدهرت في مرحلة الانفتاح على الثقافات والعلوم الأخرى فأنتجت ما أنتجته من علوم وفنون وفلسفات كانت وما زال بعضها حتى اليوم أحد روافد العلوم في الدول المتحضّرة.  

ولعلّ في واقعنا السوري خير مثال للتنوّع بمختلف اتجاهاته بما يكتنزه من تراث إنساني يشمل كافة الحضارات التي عاشت وتعاقبت ولا زالت تعيش على الأرض السورية، ويُشكّل الحفاظ على إرث وجوهر ومظاهر كل هذه الحضارات واجباً إنسانياً يرتبط بصميم الهوية السورية.

العدد 1102 - 03/4/2024