صراع الأجيال ما بين التسلّط والرفض
إيمان أحمد ونوس:
يقول دافيد كوبر:
(إن نتاج التربية داخل الأسرة، هو أبناء حصلوا على الطاعة، ولكنهم فقدوا أنفسهم وإرادتهم وشخصياتهم).
معلومٌ تماماً أن الأسرة، في المجتمعات الشرقية عموماً، ما زالت أسرة أبوية إلى حدٍّ كبير، أي إنها ما زالت خاضعة لقوانين سلطوية مُستمَدة من القيم الدينية والاجتماعية، بحيث يكون الفصل في قراراتها للأب، ثمّ الأم بدرجات أقل، بمعنى أنها تُجسّد سلطة القوي على الضعيف، أو الكبير على الصغير، أو الحاكم على المحكوم. من هنا، فإن التربية تلعب الدور الحسّاس والمصيري في تكوين شخصيات الأبناء منذ اللحظة التي يُبصر فيها الأبناء النور.
والمُتتبّع أو الباحث في شؤون الأسرة من مختلف النواحي، سيلمس مدى تأثير شخصية كلٍّ من الأبوين بما يحملانه من مفاهيم وقيم وأفكار، إضافة إلى نمطية الأساليب والطرق التربوية التي يسلكانها في تعاملهما مع الأبناء، والقائمة غالبيتها وإلى زمنٍ قريب على عدم الاعتراف بقيمة أولئك الأبناء من النواحي النفسية والإنسانية.
وهذا ما يضعنا في مواجهة إمّا أبناء طيّعين خانعين، لا يستطيعون السير خطوة واحدة بعيداً عن حماية الأبوين، بل عن وجودهما في غالب الأحيان، ولا يمتلكون الجرأة على اتخاذ أصغر القرارات المتعلّقة بمصيرهم، يتخبطون في الحياة فاقدي الثقة بقدراتهم وأنفسهم.
وإمّا سنكون أمام نوعٍ آخر من الأبناء الذين يُظهرون للأبوين والآخرين احتراماً مُغلّفاً بالخوف، لا يلبث أن يتلاشى في غيابهم، لأنهم غير مقتنعين بما يُفرض عليهم من رؤىً وأفكار وأوامر لا تتناسب ورغباتهم ورؤيتهم للحياة، بل وربما يرفضونها جملةً وتفصيلاً، فيكون التمرّد سيّد الموقف، ممّا يُفضي لصراعات تختلف شدّتها باختلاف نمطية الطرفين، يكون هدف الأبناء منها رغبتهم بالتحرر من قبضة آبائهم، وإصرار أولئك الآباء على تشكيل أبنائهم كما يرون ويروق لهم، ووضعهم في القالب الذي وُضِعوا هم فيه من قبل.
بالتأكيد، إن هذه التربية بمختلف اتجاهاتها، لا يمكنها أن تبني إنساناً حقيقياً ولا مجتمعات متطورة ما لم تتخلّص من عقدة السلطوية والقيم الماضوية التي لا يُمكنها أن تُثمر إلاّ تخلّفاً مستمراً، سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى المجتمع، مثلما ستُفضي بالتأكيد لاحتدام الصراع واستمراره بين الطرفين بما يشغلهما عن التطور الحاصل في مسارات الحياة من جهة، ويُفقدهما المودة والاحترام الواجب والمطلوب بينهما حتى لا ينفرط عقد تلك العلاقة التي تتصف حكماً بالاستمرارية حتى بعد خروج الأبناء من شرنقة الآباء.
فالتربية في أصولها عملية بناء مستمرة تبدأ لحظة حضور الطفل إلى الحياة (وبرأيي أنها تبدأ لحظة الإلقاح وما يكون عليه الأبوين من حالة نفسية وتقبّل لأبوّتهما)، ولهذا، علينا كآباء أن نتقبّل أبوّتنا أولاً بشكل صحيح وسويّ، كي نتقبّل هذا الوافد الجديد بكل الحب والرعاية والتفهّم لمختلف احتياجاته النفسية والمادية والجسدية، ولعلّ الاحتياجات النفسية هي الأهم على الإطلاق باعتبارها الأساس في تكوين سمات الشخصية المستقبلية للابن، وبالتالي ما سيكون عليه المجتمع لاحقاً. كما علينا الاعتراف بقيمة ومكانة الابن طفلاً كان أم يافعاً أم شابّاً، لأنه إن فقد هذا التقدير، لا يُمكنه بحال من الأحوال احترام الآخرين وتقديرهم وبضمنهم أبواه. فحين نحتوي أبناءنا بكل ما فيهم من سلبيات وإيجابيات، فإننا نمنحهم الثقة بنا وبأنفسهم، ممّا يؤهلهم لأن يكونوا أفراداً أكثر إيجابية في علاقتهم معنا كآباء ومع أنفسهم والآخرين، وبالتالي نصل حقيقة إلى مجتمع منفتح إلى حدٍّ ما، مجتمع قابل للتطور من خلال تقبّلنا للاختلاف، وليس الصراع، ما بين الأجيال، سواء كُنّا آباء أو أبناء.