من حقّهم أن يكونوا مختلفين

إيناس ونوس:

تعتبر التربية من أخطر وأهم المهام الواقعة على عاتق الأهل، لاسيما الآباء الذين يسعون لتكوين شخصيات متميّزة في أسرة متوازنة، ولهذا التوازن عدّة مقوّمات من المفترض أن يعيها ويتقبّلها كلا الأبوين وإن اختلفت أو تناقضت ربما مع ما نشأا عليه، من أهم هذه المقومات:

– تقبّل الطفل كما هو وتحديداً في سنيه الأولى وليس كما نريد منه أن يكون، مع ضرورة معالجة بعض القضايا الأساسية التي ستكون عليها شخصيته فيما بعد، إنما بطريقة مليئة بالحب والتفهّم والحزم، في الوقت ذاته.

– مع مرور الوقت تغدو إحدى أولويات الأهل أن يسعوا لتربية ذواتهم فيما هم يربّون أطفالهم، فمع كل طفل، ومع كل موقف يعترضهم، عليهم القيام بدراسة شخصياتهم، ولربما احتاجوا إلى التغيير في طرق التفكير والتعامل مع المفاهيم التربوية المُستجدّة عليهم، بأن يضعوا أنفسهم مكان أطفالهم في تلك المواقف وكيف كانوا يتمنون من أهلهم أن يتعاملوا معهم آنذاك، فليس كل ما نشأنا عليه كأمهات وآباء صحيحاً والعكس كذلك.

– بحكم التطور وتنامي الوعي، إضافة إلى تنوع متطلبات الحياة الحديثة، يصطدم العديد من الآباء مع أبنائهم بين ما تربوا عليه وتشرّبوه، وما هو مُستجدّ تفرضه الحياة، ما أدى لبروز ظاهرة صراع الأجيال التي تحوّلت إلى مشكلة حقيقية يعاني منها الأهل كما الأبناء على السواء، فمعظم الآباء يتعاملون مع أبنائهم بناءً على ما تربّوا هم عليه، متغافلين عن أن الحياة في تطور مستمر، وما كان صالحاً بالأمس بات اليوم غير ذي فائدة، من أحد الأمثلة: استخدام التقنيات الحديثة الذي بات من البديهيات لأبناء الجيل الحالي، في حين لم يكن موجوداً أو ربما كان ممنوعاً في السابق، ومهما كان موقفنا كآباء من تلك التقنيات سلبياً أم إيجابياً، فإن علينا أن نُقرّ بأنها باتت أمراً واقعاً، وبالتالي فمن الضرورة أن نتقبّل استخدام أبنائنا لها، مع أهمية البحث معهم عن أساليب متنوعة في إقناعهم بعدم الاستلاب الكلي لها، وباستخدامها في مجالات هامة بدلاً من أن يتركوها تُسيّرهم كيفما اتفق.

– من جانبٍ آخر، من الضرورة بمكان أن يطول أسلوب التواصل مع الأبناء بعض الاهتمام والتطوير، ففيما مضى كان الأب يحمل بعض المفاهيم التي تجعله بعيداً كل البعد عن أبنائه، حاصراً مسؤولياته تجاههم بما يقدمه لهم من مأكل وملبس ومسكن، في حين أن التواصل الروحي والإنساني ملغى من حياته، بل ومُعيباً أو مُخجلاً أن يقوم به، في حين نجد أن تواصل الأب مع أبنائه وتحديداً في فترات حرجة من حياتهم، كسن المراهقة والبلوغ، له كبير الأثر في استقرار نفسياتهم وازدياد الثقة به وبأنفسهم، لأن مروره سابقاً بتلك المرحلة يُسهّل عليه مساعدتهم على تخطي كل عقباتها بكثير من الهدوء والاتزان، لكونه يقدّم لهم معلومات تتجسّد حقيقة واضحة لهم، وكذلك الأم أيضاً مع بناتها، وبالتالي فالأب أو الأم اللذين يتصرفان بهذه الطريقة سيتمكنان من بناء جسرٍ قوي ومدعّم بينهما وبين أبنائهما، ممّا يجعلهما ملجأ الأمان حين تعترض مصاعب الحياة طريق الأبناء، وما يفتح المجال لطرح المثال الآتي:

أحد النماذج التي علّمتني أسلوباً رائعاً في التربية، كان لأمٍّ اعترفت لها ابنتها المراهقة وهي ترتعش بذنبٍ اقترفته مع شابٍ تحبّه، فسمحت له بتقبيلها… أولاً لننتبه لأمرٍ هام، أن تلك المراهقة على علمها التام من أن والدتها لن تكون رحيمةً معها، إلا أنها فضّلت إخبارها، وهذا مردّه إلى جسر الأمان والثقة الذي كانت الأم سابقاً قد بنته بينهما، وثانياً، ما كان من الأم إلاّ أن تحلّت بالهدوء، وأبعدت تخبّط مشاعر أمومتها جانباً وجلست تحاور ابنتها في بشاعة الخطأ الذي ارتُكب بلغةٍ مفرداتها مليئة بالحب والثقة من أن ابنتها واعية لن تكرر ذلك، مع أنها أوضحت لها أنه أمر طبيعي في هذه المرحلة العمرية، لكنه بحكم المنظومة المجتمعية يعتبر خطأً وكبيراً جداً،  فآلت علاقة الأم وابنتها بعد هذا الموقف إلى مزيدٍ من الثقة والتفاهم والحب والصراحة، بينما لو تصرفت الأم بطريقة أمها وجدّتها ووضعت الأعراف والتقاليد وأسلوب التربية القديم أمامها لن تصل إلاّ إلى الفشل الذريع مع ابنتها وبالتالي ستفقد المعنى الحقيقي للتربية، كل ما فعلته الأم أنها وضعت نفسها مكان ابنتها وتخيّلت ماذا تريد من أمها أن تتصرّف معها؟

إذاً، فلنتقبّل منذ البدايةً أمومتنا وأبوّتنا بصدرٍ رحبٍ وبكل الحب، ومن ثم نعي ونتقبّل فكرة أن أبناءنا ليسوا لنا… ليسوا من جيلنا، ولن يكونوا كما نريدهم بكل الأمور، إنما إن زرعنا بشكلٍ صحيح فسنلقى نتائج ما زرعناه حكماً، حتى لو اختلفت طرقهم وأساليبهم، فلهم الحق في أن تكون لهم نظرتهم الخاصة تجاه الحياة والتي من الطبيعي أن تختلف عن نظرتنا.. فأبناؤنا هم أبناء الحياة المتجددة.

العدد 1104 - 24/4/2024