أطفال سورية تائهون ما بين رحى الواقع والقرارات الأمميّة
إيمان أحمد ونوس:
لا شكّ أن مستقبل أيّ بلد منوط بحاضر أطفاله، لأنه يحمل سماتهم بكل ما فيها من تباينات وتناقضات، فأطفال اليوم هم شباب المستقبل الذين سيبنون صروح الحياة بكل أبعادها، إذا ما عملت الحكومات على بنائهم النفسي والقيمي والعلمي، وذلك من خلال منحهم كل احتياجاتهم ومستلزماتهم الحياتية وحقوقهم التي نصّت عليها اتفاقية حقوق الطفل، فقد جاء في المادة 3/1: في جميع الإجراءات التي تتعلق بالأطفال، سواء قامت بها مؤسسات الرعاية الاجتماعية العامة أو الخاصة، أو المحاكم أو السلطات الإدارية أو الهيئات التشريعية، يولى الاعتبار الأول لمصالح الطفل الفضلى.
غير أن ما شهدته الطفولة في سورية وما تزال، على مدى سنوات الحرب وما قبلها بعقود وحتى اليوم، يندى له جبين البشرية والتاريخ لما لاقته من إهمال وتشرّد وانحراف، ثم من قتل وخطف وتهجير ونزوح وموت مجاني متوّج برعب وهلع استوطن الذاكرة وتشبّث بنسغ الشخصية التي ستحتاج إلى زمن وجهد غير قليلين من أجل أن يتعافى أولئك الأطفال من ويلات الحرب وما سبقها وتلاها من تداعيات.
المديرة التنفيذية لليونيسيف (هنريتا فور) ناشدت المجتمع الدولي مطلع هذا العام قائلةً:
(الاستثمار في أطفال سورية هو أفضل استثمار يمكن لأيّ منّا أن يقوم به. إنه استثمار في المستقبل، استثمار في السلام. إن ملايين الأطفال السوريين يبكون من الجوع ومن البرد، من الجروح ومن الألم، من الخوف ومن الفقدان ومن الحزن الذي يُحطّم القلب… وعلينا أن نقف معهم. علينا أن نقول لهم إننا نختار السلام. وإن لم نفعل ذلك، فسوف يحاكمنا التاريخ وبقسوة وسيكون حكمه عادلاً).
كما حذَّرت منظمة العمل الدولية من أنه من المرجح أن تؤدي التداعيات الاقتصادية لوباء كورونا إلى زيادة عدد الأطفال الذين يجري استغلالهم في العمل. ومن المتوقع وحسب تصريح مسؤول أممي أن تدفع تداعيات كورونا الاقتصادية ملايين الأطفال حول العالم إلى سوق العمل.
وفي تقرير نُشر بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال، الموافق 12 حزيران، قالت المنظمة: (إن الصعوبات المالية يمكن أن تُقوّض أيضاً التشريعات الموضوعة لحماية الأطفال من العمل الذي يحرمهم من طفولتهم وإمكاناتهم وكرامتهم، وهذا يُضرّ بنموهم البدني والعقلي). وقال بنجامين سميث، خبير عمالة الأطفال في المنظمة: (نحن قلقون من أن الدول ستُخفّف التشريعات وتزيل الحماية التي تمنع الأطفال من العمل). وأضاف: (وجهة نظرنا هي أن أي تحرّك في هذا الاتجاه سيكون غير مقبول، فهذه الأزمة ليست ذريعة لعكس النتائج التي حققناها حتى الآن). لكن سميث يخشى من أن يؤدي الوباء إلى الضغط على الأُسر المُتضرّرة من المرض بشكل مباشر أو غير مباشر. كما أن هناك مخاوف من أن المصاعب الاقتصادية التي يُسبّبها الوباء ستُعزّز الدعوات إلى إعادة التفكير في الحظر المفروض على عمالة الأطفال، أو ستؤدي بالدول إلى تخفيف التشريعات. ويختم سميث بالقول: (نحن نُخاطر بفقدان جيل إذا لم نُصلح الأمور بشكل صحيح).
وتتخوّف منظمة العمل الدولية من أنه مع تفشي فيروس كورونا قد ترتفع عمالة الأطفال لأنهم خارج المدرسة، فضلاً عن وقوع العديد من الأُسر في فخّ الفقر. وتبيّن أحدث الأرقام أن هناك 152 مليون طفل، تتراوح أعمارهم بين 5 سنوات و17 سنة تعتبرهم المنظمة (ضحايا عمالة الأطفال).
كما حذّرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) من تفاقم ظاهرة عمالة الأطفال السوريين التي بلغت مستويات خطيرة، إذ يُساهم الأطفال في دخل الأسرة وبشكل شبه أساسي لدى 75% من العائلات. وهذا ما يتعارض وبشدّة مع اتفاقية حقوق الطفل والإعلان العالمي لحقوق الطفل اللذين أكّدا ضرورة السعي لحماية الطفل من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يُرجّح أن يُشكّل خطراً أو يُمثّل إعاقة لتعليمه، أو ضرراً بصحته أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي، وأوجبت الاتفاقية على الدول الأطراف فيها اتخاذ التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتربوية التي تكفل هذه الحماية، ووضع حد أدنى لسن الالتحاق بالعمل، وفرض عقوبات مناسبة لضمان فعّالية تطبيق هذه النصوص تماشياً مع اتفاقيات العمل الدولية التي أكّدت جميعها على عدم تشغيل الأطفال ما قبل الخامسة عشرة من العمر، لاسيما اتفاقيتي العمل رقم 138 لعام 1973 والاتفاقية رقم 182 لعام 1999 اللتان حدّدتا عدداً من الأعمال التي اعتبرتها الأسوأ ممّا قد يؤديه الطفل، وهي: الرق بكل أشكاله وأنواعه، والعمل القسري، واستخدام الأطفال في الصراعات المسلحة، وهذا ما تعرّض له أطفال سورية على مدى سنوات الحرب.
كما أصدرت منظمة العمل العربية الاتفاقية رقم 18 لسنة 1996 بشأن عمل الأحداث، كأول اتفاقية عربية مُتخصّصة في مجال عمل الأطفال، وقد حظرت عمل من لم يُتمّ سن الثالثة عشرة من عمره، ونصّت على أن أحكامها تشمل جميع الأنشطة الاقتصادية باستثناء الأعمال الزراعية غير الخطرة وغير المُضرّة بالصحة، ووفق ضوابط تُحدّدها السلطة المختصة في الدولة تراعي فيها الحد الأدنى لسن الأطفال. كما أوجبت ألا يتعارض عمل الأطفال مع التعليم الإلزامي، وألا يقل سنّ الالتحاق بالعمل عن الحد الأدنى لسن إكمال مرحلة التعليم الإلزامي، وأن تقوم الدولة بإجراء الدراسات حول أسباب عمل الأطفال فيها، وأن تعمل على التوعية بالأضرار المُحتملة لعمل الأطفال. ويُعدُّ الالتزام العالمي بالقضاء على عمالة الأطفال بحلول عام 2025 أيضاً جزءاً من أهداف التنمية المُستدامة للأمم المتحدة، وقد انخفضت الأرقام باستمرار وفقاً للمنظمات المختلفة التي تراقب عمالة الأطفال في جميع أنحاء العالم.
وإذا ما أمعنّا النظر في مجمل التقارير والتحقيقات التي تُصدرها المنظمات الدولية، أو تلك التي تُعدّها وسائل الإعلام العالمية عن وضع أطفال سورية في الداخل والخارج، نجد أن حجم الكارثة والمأساة التي تُحيق بسورية وأطفالها، بحجم لا مبالاة المجتمع الدولي ومنظماته المختلفة التي وضعت معايير وأسس ومبادئ هي في حقيقة الأمر والواقع غير مُلزِمة أمام تشبّث الدول المعنية بالأزمة السورية بمصالحها المُتشعّبة، وأزماتها التي تعكسها على باقي الدول حروباً وخراباً ومديونيات باهظة تخنق، بل تقتل بها شعوب تلك الدول وأطفالها الذين قُيّض لهم أن يعيشوا في زمن توحش الرأسمالية المنفلتة من عقالها، بحيث جعلت الفقر قدر تلك الشعوب بما يحمله إليها من تخلف وجوع وأمراض جسدية ونفسية لا متناهية، إذ يُعتبر الفقر أحد أهم الأسباب الرئيسية لعمالة الأطفال، مُضافاً إليه الحروب والأزمات التي تخلق عبئاً اقتصادياً يُثقل كاهل الأطفال قبل الكبار سواء عملوا باكراً أم تعرضوا للمجاعات والأمراض المختلفة ليس في سورية وحسب، وإنما في مختلف بلدان العالم النامي الغارق أبداً في مستنقع أطماع الرأسمالية وجشعها، ممّا يعرقل، بل ويُعيق البرامج التي تُطلقها المنظمات والهيئات الدولية لمحاربة الفقر.
إن الخطر المُحدق بمستقبل سورية ناتج أوضاع الطفولة فيها يكمن في أن أولئك الأطفال يُفترض أنهم الثروة الحقيقية التي ستنهض من خلالها البلاد مستقبلاً، يتعرضون اليوم وبسبب تلك الحرب العبثية وما تبعها من تداعيات اقتصادية واجتماعية خطيرة فاقمها ما فرضه وباء كورونا وحصار قيصر، التي لن أقول إن المجتمع الدولي قد فشل في إنهائها كما ورد في تقرير لليونيسف، بل لأنه مازال حتى اليوم يتّخذ موقف المتفرّج المؤيد لكل ما يجري، حتى تحين لحظة وصوله إلى مصالحه وخططه التي سيجنيها من تلك الحرب التي سيتحمّل أطفالنا تبعاتها على المدى القريب والبعيد أمراضاً اجتماعية وجسدية ونفسية تتمثل في:
- الغرق طويلاً في أميّة تتسبّب في تخلّفهم وتمترس الفقر في حياتهم نتيجة هجرهم لمدارسهم والتحاقهم بالعمل باكراً بحكم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية لأسرهم.
- انخفاض التطور المعرفي للطفل الذي يترك المدرسة ويتوجه للعمل، ، وربما انعدامه، إذ إن تطوره العلمي يتأثر ويؤدي إلى انخفاض قدراته على القراءة، الكتابة، الحساب، إضافة إلى أن إبداعه يقل، وفي هذا مؤشّر خطير على مدى التخلف العلمي والاجتماعي والثقافي الذي سيلحق بالمجتمع القادم.
- 3- انعدام تقدير الذات واحترامها وكذلك الآخرين لدى أولئك الأطفال، إضافة إلى تلاشي إحساسهم بالارتباط بالعائلة نتيجة انخراطهم في العمل لوقت طويل، وربما النوم بمكان العمل وتعرّضهم للعنف من قبل صاحب العمل أو من قبل زملائهم.
- انعدام الشعور بالانتماء للجماعة، وتقلّص القدرة على مساعدة الآخرين، إضافة إلى تنامي روح العدوانية لديهم، لاسيما أولئك الذين يتمّ تجنيدهم للقتال، ممّا يؤدي إلى الابتعاد كلياً عن القيم الأخلاقية والعاطفية، وعدم القدرة على التمييز ما بين الخطأ والصواب.
- يؤكّد الباحثون منذ وقت طويل أن أنواعاً معيّنة من العمل يُسبّب مشاكل نفسية، واجتماعية خطيرة للأطفال تتجلّى بالانطواء والاكتئاب والشيخوخة المبكرة.
فهل من إمكانية جادة وحقيقية لتفعيل جميع الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية الخاصة بالطفولة إنقاذاً لملايين الأطفال في العالم؟ وهل يُكثّف المجتمع الدولي جهوده، مقابل تقليص مصالحه من أجل وقف نزيف الدم الجاري في سورية، وأيضاً إلغاء العقوبات الاقتصادية، وبضمنها قانون قيصر، إنقاذاً لأطفالها الذين كبروا قبل أن يولدوا، ذلك أن هذه العقوبات لا تطول سوى الشرائح الأضعف في المجتمع وفي مقدمتهم الأطفال!؟؟