الغرب لن يبقى متسيّداً على العالم

د. صياح عزام:

هناك مؤشرات عديدة تدل على أن أوضاع الغرب بشكل عام، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، لا تسير بالاتجاه الذي كان سائداً، والذي يقول بأن هذا الغرب سيظل متسيّداً على العالم من دون أن منافس، وذلك بغض النظر عن عواقب الصرخة العالمية ضد العنصرية التي انفجرت مؤخراً، بعد جريمة قتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد.

من هذه المؤشرات البارزة حجم المسيرات والتظاهرات التي تستمر في الولايات المتحدة والدول الأوربية، إذ إنها مسيرات وتظاهرات وصفها كثيرون بأنها تاريخية، ومدهشة، وغير مسبوقة، منذ نصف قرن على الأقل، وربما منذ اغتيال زعيم مقاومة التمييز العنصري مارتن لوثر كينغ عام 1968 من القرن الماضي. وقد كانت مطالب المتظاهرين تتمحور حول المناداة بتحقيق المساواة والعدالة بين مختلف شرائح الناس والشعوب والأمم، الأمر الذي يساعد على الإسراع في بلورة عالم جديد، يقول معظم المنظرين والمطلعين على بواطن وخفايا الأمور إنه يتشكل، بل إن معالمه أصبحت واضحة لا يمكن تجاهلها.

ومما يلفت النظر في هذه التظاهرات والمسيرات، أنها جمعت كثيراً من الأضداد السياسية، واستقطبت قادة دول ومسؤولين كباراً، بعضهم متهم بالفاشية، الأمر الذي يعني بوضوح أن الوعي بالخطيئة والشعور بالندم، قد تجاوز حدود التمايز المألوفة، ويعني أيضاً أن هذه اللحظات حاسمة، وربما ستمنح الدول الغربية فرصة لن تتكرر لمراجعة نفسها، وحفظ ماء وجهها وإعادة النظر بمعاييرها المزدوجة التي تتبعها في التعامل مع القضايا الإنسانية باتجاه تمكين الشعوب والدول من تقرير مصيرها بنفسها وفق الشروط المستجدة والمطلوبة والبعيدة كل البعد عن مفاهيم الهيمنة والتفرقة العنصرية والاستعلاء على الآخر.

الحقيقة الساطعة أن الغرب يعيش محنة لا يحسد عليها بسبب سياساته التسلطية المعروفة تاريخياً، فقد جاءت جائحة فيروس كورونا وأسهمت في تعرية وفضح العديد من عيوبه وموبقاته، ثم جاءت بعدها فضيحة مقتل المواطن الأمريكي الأسود على يد شرطي أبيض مشحون بالحقد والعنصرية وكره الآخر، وبطريقة وحشية فكشفت كبرياءه المزعومة وادعاءاته الحضارية المشروخة، وفضحت أيضاً جانباً آخر قاتماً من صورته المهشمة، إذ إن دول هذا الغرب (المتقدمة) عجزت عن حماية أرواح عشرات الآلاف من الضحايا الذين قضوا اختناقاً بالفيروس في المشافي ودور المسنين، بينما هناك دول صغرى أو فقيرة تمكنت من حماية مواطنيها، ولم تشهد انهياراً في أنظمتها الصحية ودماراً لمؤسساتها ومنظوماتها الاقتصادية.. وبالتالي جاء قتل فلويد خنقاً، ففرض على الأنظمة الغربية أن تعيد قراءة واقعها والاستفادة مما حصل في التعامل مع جائحة كورونا ومع ظاهرة التمييز العنصري البغيض وغير ذلك من السلوكيات السيئة.

لا شك بأن حادثة مقتل فلويد لن تكون حادثاً عابراً، بل لها ما بعدها، فمن المفترض أن تشكل معْلماً يرشد الغرب إلى الطريق الصحيح، وفي المقدمة من هذا الغرب، الولايات المتحدة الأمريكية التي عليها أن تدرك أن عالماً جديداً متعدد الأقطاب أصبحت معالمه واضحة، عالماً تسوده القيم النبيلة التي تحترم إنسانية الإنسان، عالماً بعيداً عن الأحادية القطبية الظالمة والمستغلة وعن كل سياسات التعالي والغرور التي كلفت العالم أثماناً باهظة، علاوة على المنطق الاستعماري العنصري التوسعي الذي يسم السلوك الأمريكي والغربي عامة.

الخلاصة: إن الغرب وفي المقدمة منه الولايات المتحدة بحاجة إلى صحوة ضمير حقيقية وصادقة تقود إلى إعادة بناء منظومات المبادئ والقيم السامية، وأولها نصرة الحقوق والحريات والعدالة، والابتعاد عن الفوقية، ورفع المظالم عن الشعوب المقهورة، ومحاربة العنصرية، والتخلي عن أحلام الهيمنة على الآخر.

العدد 1104 - 24/4/2024