السبات الاقتصادي
الدكتور عامر خربوطلي :
ليس مصطلحاً اقتصادياً جديداً ولا يوجد له أيّ تعريف اقتصادي قبل جائحة (كورونا)، بل هو تعبير نشأ حديثاً منذ عدة أيام للدلالة والتعبير عن حالة بعض الدول التي تضرر اقتصادها من تداعيات أزمة كورونا وحاجتها للاستيقاظ من السبات الاقتصادي الذي عصف بهذه الدول وخاصة المتقدمة منها، وأدخل اقتصادها إلى غرف العناية المركزية دون سابق إنذار، واحتاجت من خلال ذلك إلى أجهزة تنفس اقتصادية لإعادة ضخ الأوكسجين في مفاصل العمل الاقتصادي بجميع تفرعاته الصناعية والتجارية والخدمية، الذي تضرر بشكل كبير بسبب الإغلاق والإقفال ومنع التجول وتوقف الأعمال بشكل مفاجئ.
ولأول مرة يحدث في الكرة الأرضية نوع من التماهي بين الدول سواء في الإجراءات المتخذة، أو في الأضرار الصحية والاقتصادية، وقد تساوت في ذلك الدول الغنية مع الفقيرة على حد سواء.
ولأول مرة تضاف إلى سلسلة الدورات الاقتصادية المعروفة في العالم الرأسمالي من ركود وكساد إلى انتعاش فازدهار، تسمية جديدة مما أصبح يعرف (بالسبات الاقتصادي) هو بمثابة تراجع اقتصادي قسري حدث في كل دولة، ولكن هذه المرة بملء إرادة هذه الدول وبإجراءات احترازية لمنع تفشي الوباء، ولكنها أدت لتوقف أغلب الأعمال والنشاطات الحيوية للجسد الاقتصادي بصورة مؤقتةً مبدئياً ولا يمكن تحديد مداها النهائي.
وفرض ذلك السبات الاقتصادي أو الغيبوبة المؤقتة على الدول أن تعيد ترتيب أولوياتها بشكل كامل ومفاجئ، فتضع الصحة قبل التعليم والصناعة والتجارة، وتهتم بصناعة الدواء قبل صناعة السياحة والسفر وحتى مزاولة المهن والحرف، وتضع المعقمات والمطهرات في مرتبة الأولويات قبل عروض الأزياء وقبل المطاعم والفنادق والمسارح.
إنه عالم جديد يولد ببطء وسيعيد ترتيب الدول والشركات وفق قواعد تنافسية جديدة.
ومن يظن أن شركات عملاقة وحتى صغيرة سوف تستمر بعد تكبدها لنفقات الاستئجار وتسديد فوائد القروض وغيرها من تكاليف التشغيل الثابتة في مواجهة حالة الإغلاق والتراجع، من يظن ذلك فهو مخطئ، وستعلن شركات إفلاسها إن لم يكن دولاً بذاتها.
لقد توضح اليوم أكثر من أي وقت مضى أهمية (هرم ماسلو) لاحتياجات الانسان الذي قدمه العالم (أبراهام ماسلو)عام 1943 عندما قسم تدرج هذه الحاجات من قاعدة الهرم إلى قمته وفق التالي:
1- التنفس- الطعام- الماء-النوم-الجنس-التوازن-الإخراج (وهي الحاجات الفيزيولوجية).
2-السلامة الجسدية – الأمن الوطني – أمن الموارد-الأمن الأسري والصحي والممتلكات (حاجات الأمان).
3- الصداقة – العلاقات الأسرية – الألفة الجنسية (الحاجات الاجتماعية).
4- تقدير الذات – الثقة – الإنجازات – احترام الآخرين (الحاجة للتقدير).
5-وأخيراً وفي قمة الهرم الحاجة لتحقيق الذات من خلال الابتكار وحل المشاكل وتقبّل الحقائق.
ولم يأت وباء كورونا التنفسي عن عبث، فحاجة التنفس هي في أولى أولويات الحياة وفي قاعدة هذا الهرم.
وبعد مرور حوالي 4 أشهر على وباء كورونا المستجد بنسخته 19 ولا ندري هل سيستمر في تداعياته وهل هناك نسخ جديدة 20 أو 21 مثلاً، وما بعد -لا سمح الله-
إلا أن ما يهمنا فعلاً أنه ولأول مرة تتفوق المواد الغذائية على منتجات ومشتقات البترول والغاز، ولأول مرة تزداد أهمية المشافي على الفنادق والمطاعم، وتتبوأ خدمات الإنترنت والعمل عن بعد المرتبة الأعلى عن خدمات الاحتكاك المباشر التقليدي.
أضرار كورونا الاقتصادية أكبر بكثير من أضرارها الصحية رغم أهمية صحة الإنسان وسلامته، فهل تقلب كورونا مفاهيم علم الاقتصاد وأساسياته المعتمدة على مواءمة الموارد المحدودة مع الحاجات غير المحدودة وتصبح القاعدة تركز على حاجات محدودة وتقف عندها جميع الخدمات غير الأساسية ومتطلبات الرفاهية والبذخ، وتعيد الحديث عن نظرية التنمية صفر، فعندئذٍ سوف تبرز دول وتختفي دول بهذه المقولة الجديدة.
قديماً كانت توصف الدول النامية بأنها نائمة ويجب أن تستيقظ من سباتها، أما الآن وبعد كورونا فأصبحت جميع دول العالم بحاجة لقرع جرس الاستيقاظ والبدء ببناء اقتصاد جديد مبني على قواعد أكثر أخلاقية وعقلانية وتراتبية.
والاقتصاد السوري كما باقي الاقتصادات ورغم توفر المواد الاساسية من قاعدة (هرم ماسلو) بحمد الله، إلا أن حاجات رأس الهرم كانت الأكثر تضرراً وتراجعاً وحدث هدر شديد لطاقات فكرية ومادية من خلال فترة السبات الاقتصادي وإجراءات الحجر المنزلي الاضطرارية، وهو بحاجة، أي الاقتصاد السوري ، إلى إعادة تفكير جديد في ترميم ما تضرر من حاجات عليا غير أساسية كحاجات التقدير والابتكار عبر التركيز على المبادرات المجتمعية والأهلية وريادة الأعمال والتقانة والعمل عن بعد والاستيقاظ سريعاً والتحول لنشاط اقتصادي يعيد ترتيب أولويات الاستثمار والتجارة والمهن إضافة إلى الحاجات الأساسية من تأمين الطعام والعمل والدخل.