التقنين يطول ربطة الخبز والمواطن على رمال الجوع المتحركة
أنس أبو فخر:
حقيقةً، إن الحديث عن الأزمات والمعاناة التي يعيشها المواطن السوري يذكّرني بأغنية للراحل عبد الحليم حافظ (نبتدي منين الحكاية؟) فهل تبدأ المعاناة من غرق المواطن في رمال الفقر المتحركة، أم من سراب الكهرباء وسوء الخدمات في كثير من المناطق، أو من المحروقات وارتفاع الأسعار وصولاً إلى حليب الرضّع، وانتهاءً بأخطبوط البطاقة الذكية؟!
في واقع الأمر إن كل ما ذكر، وهناك المزيد، هو أدنى الحقوق المعيشية للمواطن السوري، ولا نستطيع تعتيم أيّ جزء منها أو تهميشه. ولكوننا ننحدر من بيئة تكثر فيها الأعمال اليدوية نستطيع وصف المواطن الآن كمن يرتدي سروالاً مهترئاً ويثابر في ترقيعه بألوان مختلفة إلى حدِّ أنه لم يعد يميّز أيٌّ من الألوان هو اللون الأساسي للسروال.
قبل ثلاثة أشهر مضت
في حادثة طريفة منذ سنوات، ذكرت إحدى وسائل الإعلام الحكومية، تحليلاً ينطبق عليه المثل الشهير (إجا ليكحّلها) ومفاده أن سبب لجوء المواطنين للحطب وقطع الأشجار بقصد التدفئة هو (حنين للماضي) وليس لانعدام مادة المازوت وندرة الكهرباء. وإذا قمنا بإسقاط هذا التصريح على الواقع الحالي نجد أنه يلخّص مشكلة الشعب القابع في وادٍ والحكومة في وادٍ آخر، فمنذ بضعة أشهر مضت شهد الشارع موجة غضب عارمة واعتصامات في بعض المناطق تركّزت في محافظة السويداء، وتزامنت مع سخط واستياء على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لتردّي الأوضاع المعيشية للمواطن ووقوعه بين احتكار التجّار واستغلالهم من جهة، وقرارات حكومية بعضها زاد الطين بلّة، وبعضها الآخر بمثابة مسكّن للألم. وبقيت حالة المواطن البائس هي ذاتها مع بعض التغييرات مثل الزيادة على الرواتب، لكنها لم تكن كافية بل ذهب جزء منها كضرائب، ولم يطرأ على الأسعار أي تغيير لصالح المواطن.
أمّا الحلول الجذرية فقد غابت كالعادة عن الأنظار، وما تزال المشكلات تتابع على جميع الأصعدة مقترنة بقرارات مفاجئة مثل ارتفاع أسعار الدواء، ومشكلة التأخير في توزيع مادة المازوت في فصل الشتاء، (ومن محاسن الصدف) ازدياد ساعات التقنين كلما انخفضت درجات الحرارة، علماً أن الكهرباء لا تصلنا بالجودة المطلوبة، ولم تُتّخذ أيّة إجراءات إصلاحية في هذا الشأن، إضافة إلى غياب الرقابة عن الأسواق وفقدان بعض المواد بسبب احتكار كبار التّجار لها، وارتفاع الأسعار المتزايد في ظلّ صمت مجلس الشعب الذي انتُخب من الشعب ليمثّل صوت من لا صوت لهم، وتلاشي الإجراءات الحازمة من الرقابة.
- تنصّل الفارس وأخطبوط الباقة الذكية
تقدمت الحكومة السورية بعدد من الإجراءات في ظلّ الحجر الصحي، لا أقصد هنا الوقائية إنما الخدمية، راصدةً ميزانية خاصة لذلك، وبادرت منذ أيام في البدء بالتعويض على السائقين والعاملين في قطاع النقل والمواصلات واستكمالها على أصحاب المهن الحرة، ولكن من ضمن هذه القرارات كان قرار وزارة التجارة وحماية المستهلك برفع أسعار المواد الغذائية في صالاتها الاستهلاكية، مبرّرة أن هذا القرار لمنع التلاعب في الأسعار والحدّ من انتشارها وبيعها في السوق السوداء، ويعتبر هذا القرار تماماً كالتصريح السابق عن حنين السوري للماضي، موجدة بذلك حلاً دون النظر إلى حالة المواطن، الذي كان ينتظر إجراءات رقابية حازمة وعقوبات قاسية على التجّار المتلاعبين بالأسعار.
أمّا البطاقة الذكية التي إذا أردنا تشبيهها بكائن ما، فنستطيع أن نُشبهها بالأخطبوط، ذلك أنه يُطبق على فريسته بأذرعه التي تعمل على خنق الفريسة ببطء، كما هو حال هذه البطاقة، فبعد الصوم الطويل للشعب السوري فطر على قرار يُراد به حلاً إلاّ أنه كان بمثابة (ضربة معلّم) للحكومة التي تمكّنت من خلاله إيصال التقنين إلى المواد الغذائية الأساسية للمواطن كالسكر والأرز والشاي.
تجدر الإشارة الى أن مشروع البطاقة الذكية مشروع متقدّم ومتطور ويساعد على التنظيم وتخفيف الأعباء عن المواطن والتجّار، كذلك يمنع الاحتكار ويحدّ من الفساد، ولكن يتعارض هذا المشروع من وجهة نظر البعض مع التوقيت الحالي والوضع المعيشي المتردي، وبالأخص ما يأتي ارتجالياً كحال آخر القرارات في ضمّ مادة الخبز إلى باقة البطاقة الذكية ورفع الدعم عنه.
بين قرار لمصلحة المواطن
وناقوس الخطر لعجز غذائي
مع تفشي أزمة كورونا العالمية والتشدّد بالإجراءات الوقائية، ونظراً لحاجة الناس الكبيرة للخبز إضافة إلى حالات الازدحام والفوضى التي أحدثتها، أصدرت الحكومة قراراً يقضي بضم مادة الخبز إلى البطاقة الذكية، مُحدّدة بذلك كميات الشراء وفق عدد أفراد العائلة، وكعادتها لم تكترث بالعازبين! الأمر الذي شهد موجة غضب على ساحات التواصل الاجتماعي، ولاقى القرار الكثير من السخط والمطالبة بإلغائه والتراجع عنه، وحتى الآن من غير المؤكّد الاستمرار به، فبحسب ما أفادت وزارة التجارة وحماية المستهلك أن العمل بالبطاقة الذكية سيتم في محافظة دمشق وريفها، كتجربة، ومن ثم سينتقل إلى باقي المحافظات إذا حقّق النجاح المطلوب، ما فسّره البعض على أنه مؤشّر لما وصفه بعجز غذائي وصحي، خاصة مع لجوء الحكومة كما أفادت مصادر إعلامية إلى استيراد القمح من روسيا في الفترة الماضية.
والجدير بالذكر أن حالة الازدحام لا تقتصر على الأفران، بل تعدتها إلى المؤسسات الاستهلاكية، والنقص في الأجهزة القارئة للبطاقة الذكية ما يؤدي لبطء في العمل وازدحام وفوضى أحياناً داخل المؤسسات، فهل ستكون كميات الأجهزة القارئة، التي تقارب سعر كلٍّ منها مئة ألف ليرة سورية، متوفرة كفاية في الأفران؟
وهل عمل كورونا على تعرية العجز الغذائي والصحي للحكومة؟ وهل سيشهد المواطن في الأيام المقبلة قرارات جديّة وخططاً اقتصادية تُخرجه من هذه المتاهة والكارثة الإنسانية، أم أن الحكومة ستنصحه بأكل الكعك!؟