معركة الرّغيف!
غزل حسين المصطفى:
أيّها الرّغيف كنت عكّازاً، وكنت الجبيرة الّتي قوّمت انكسار فقيرٍ أمام عيون أطفاله المُتلهفين إلى (عروسة زيت وزعتر).
أما اليوم فقد جُرِّدت من رُتبك وبتّ ورقةً رابحةً بين أيديهم
يقامرون بك.
قدّمنا القرابين، بل وأغلى القرابين في
الحرب ونحن مؤمنون بالصمود وضرورة الانتصار، كنا نكسر ضلوع أقفاصنا الصّدرية لنشعل
الموقد أو نأتي برغيفِ خبزٍ يسند جدران خيال جسدٍ بشريٍ يتوق للقمةٍ واحدةٍ ولفحةٍ
من دفء.
لكن ماذا لو صار هذا (الرّغيف) هو
محور معركةٍ يومية نخوضها!
(انظر إلى الرّغيف،
هل كُتب عليه اسم من سيأكُله؟ أعطهِ إلى كلِّ محتاجٍ يأتي باب البطريركية!).
جملة هزّت أعماقي وأنا أرقب مجريات
واقعِ لقمةِ عيشنا اليوم، قِيلت منذ ما يزيد عن مئة عام، على لسان أبو الفقراء، مسيحيين
ومسلمين، البطريرك (غريغوريوس حداد).
صليبٌ ذهبيٌ جاء هديةً شخصيةً بيع،
أوقافُ البطرياكية والأديرة رُهنت، 20 ألف ليرة ذهبيّة اُستُدينت لإنقاذ الجُيّع
في مجاعة (سفر برلك) ولم يقف البطريرك مكتوف الأيدي، ولم يكتفِ بأن يناشد الله
الفرج في صلاته.
لنفرض جدلاً أن تدابيره تلك لم تُحدث
فرقاً، لكنه لم ينجُ بنفسه مع صليبٍ ذهبيٍ وأوانٍ تاريخيّةٍ، ولم يترك السّفينة
بمن فيها تغرق وهو على ضفاف الحياة امتطى عرشه بحلةٍ من بكاءٍ وتعاطفٍ، إنما كان
من الجميع ومعهم.
يومئذٍ، وكلّ شيءٍ متاحٌ له دون منة،
قال: ( لا يليق بي أن آكل وغيري يتضور جوعاً) ورفض قوتاً متواضعاً مؤلفاً من
بيضتين بالسمن.
ما مناسبة ما أقول؟
فاضت روحه منذ زمنٍ بعيد، والتّاريخ
قد سجل فعله ليس بحاجةٍ لشهادتي وثنائى، إنما جئت بهذه التفاصيل لأعقد مقارنةً غير
واضحة المعالم، وأترك لكم حرية القياس على أرباب القرار عندنا، ليس لدي المزيد
لأحكيه فالجرح والمعترك واحد وزخرف الكلام لن يُغيّر مجرى الحدث.
لكن سأبوح أخيراً بغصةٍ تتأرجح على
أوردتي.
رسالةٌ إلى رغيف الخبز…
كانت الغنيمة كبرى حين نصل إليك وقت
خروجك من بيت النار طازجاً مقمراً شهياً، فتؤكل دون مرافق بكل حب.
اليوم الغنيمة صارت أن نستطيع إليك سبيلاً فقط أيّاً
كانت حالتك، فتسمح مخصصات البطاقة الذكية (الغبية) أن يحصل كل الأفراد على كمية
تسدُّ نواحي أحشائهم الفارغة.
أيها الرّغيف كنت عكّازاً، والجبيرة التي قوّمت انكسار
فقيرٍ أمام عيون أطفاله المُتلهفين إلى (عروسة زيت وزعتر).
أما اليوم فقد جُردت من رُتبك وبتّ ورقةً
رابحة بين أيديهم يقامرون بك.
وجدوا أن دخان الحرب ودماءها لم تلوّثك
بعد، فاستجلبوا الذل والحاجة وغطوا بها جمال وجهك ووجنتيك.
أيّها الرّغيف!
ما يحصل اليوم لم يمرّ
بنا ونحن في أشدّ
أزمات الحرب، ففي ظلّ انقطاع كل شيء بقيت أنت الرّفيق الحاضر للجميع، كنت القوت
الوحيد لأملنا بغدٍ أفضل.
أولئك يطالبون بحق العودة، وغيرهم
يطالب بحريتهم وحقوقهم، ونحن نُطالب بك حراً طازجاً نبتاعك من أيّ نافذة مخبزٍ، لا
نحمل لأجلك أوراقاً رسمية وسندات تمليك.
ستشتاقك حتّى حمامات الشّبابيك
الكريمة حين كُنت تُقدم بكلّ حب يابساً جاهزاً لنقراتهم تلك، أمّا اليوم فإن حصل أن بقي منك
القليل ستصير يابساً تنتظرك قصعة حساءٍ قد يكون ساخناً.
أتعلم أن شاشتنا الوطنية كانت تبث
أغنية هزلية تسخر فيها من حال الغلاء وتُهزّئ سمعة تجار الأزمات!
نعم، نبثُّ الأغاني، نستنكر، نمتعض، لكن لا نُحرك ساكناً، فحماية
المستهلك (كمالة عدد) لا نفع منها (وكلشي صار على المكشوف).
أيها الرغيف سأنهي حديثي وأركن إلى
نفسي أطفئ نارها، أنا أعتذر لك عن سوداوية حديثي ولكنّه الواقع، أنا أشمّ رائحة
الموت وبقوة من الضمائر والأفئدة، من الرّحمة والإنسانية، من نفوسٍ تتضوّر إلى الحياة الكريمة، لكنها ماتت على
الأمل.