شريعة الغاب
مرح محمد نبيل السمكري:
لكل منزل في هذه الشوارع قوانينه الخاصة التي يضعها الأبوان، ويطبقونها على الأبناء، النوم عند العاشرة، الاجتماع على وجبات الطعام، عدم مقاطعة الأفراد عند الكلام، طرق الأبواب قبل الدخول، وقول الصدق مهما كانت المشكلة، وما إلى ذلك من قوانين مديدة تُعتبر حجر أساس لشخصيات الأبناء قبل خروجهم للمجتمع، فهي تُنظّم طريقة تفكيرهم وانضباطهم وتعاملهم مع الآخرين، كما أنها تنظم سير الحياة الأُسرية، فإمّا تجعل الحياة قائمة على الاحترام والذوق وإمّا تجعلها غارقة في الشجارات وقلّة التهذيب.
كذلك هي قوانين البلاد، تقوم بتربية الشعوب لتنظم حياتهم فيما بينهم، تماماً كما يفعل الأبوان، وتملي عليهم نصوصها، كمنع السرقة والحبس بسببها، وعدم الاعتداء الجسدي أو التعرّض للأفراد، وفي حال عدم الاستجابة يطبّق العقاب، وبذلك إمّا أنها تجعلهم شعوباً راقية في التعامل والتفكير، وإمّا تحثّهم على طرق تعامل همجية ولا أخلاقية.
وكلما كانت الشعوب أكثر وعياً، والتزاماً تامّاً بالقوانين، عاشت حياة المساواة والعدالة، وقد يصل ذلك إلى الحفاظ على الحياة، وخير مثال على ذلك ما ظهر جليّاً في الفترة الأخيرة، عندما انتشر كوفيد19 أو بتسمية أخرى (فيروس كورونا)، فبعض الحكومات اتخذت إجراءات سليمة، ومن بينهم الحكومة السورية، ولا أقصد بذلك (تمسيح الجوخ)، إلاّ أن الحكومة في هذه الفترة أظهرت اهتماماً كبيراً واستفادت من تجارب الدول الأخرى، فمع بدء تفشي الفيروس في البلاد قامت بإيقاف دوام المدارس والوظائف الحكومية لمنع انتقال العدوى بين المواطنين، وبعد فترة قصيرة أصدرت قرار إغلاق كل المحال التجارية عدا الغذائية منها، ثم منعت التجوال لمنتصف النهار، ومنعت التنقل بين المحافظات، ويبن الريف والمدينة وما زالت تقوم بإصدار قرارات أشدُّ حزماً وأكثر دقة في كل يوم ، لكن ليس لديها خيارات، فإمّا القرارات الحازمة وإما الموت وتفشي الوباء.
إلاّ أننا لو عدنا إلى الوراء عدّة أسابيع (قبل تفشي كورونا) لتذكرنا كيف كان تطبيق القوانين لدينا، ويتبادر السؤال: هل يعقل عدم وجود قانون في هذه البلاد؟ وما سبب كل هذا الفساد المتفشي؟
لا تقوم أي دولة وأي مجتمع من دون قانون، لكن العبرة تكمن في تطبيقه، فتجاوز القوانين واعتبارها غير موجودة يجعلك تشعر أنك تعيش في غابة لا يحكمها أية ضوابط، بل تسير على مبدأ الغابات (البقاء للأقوى) وكل مخلوق ضعيف ليس إلاّ وجبة غداء للقوي.
في هذه الظروف آخر ما يخطر في بال المواطن هو اللجوء للقانون، لأن القضية ستأخذ سنوات عديدة وربما عشرات السنين ليأخذ الحكم مجراه، أو لأن رجال القانون يمكن شراؤهم ببعض المال، فيقلبون الحق باطلاً والباطل حقاً، وتنتشر شريعة الغاب (البقاء للأقوى) أو البقاء للأغنى، فاليوم لا يفكّر المواطن الفقير أن يقف مع الغني على كفة ميزان مقابلة، لأنه يعرف أن هذه الكفّة سترتفع به كثيراً لترمي به أرضاً وتتركه جريح الكرامة.
إن سيادة هذه الثقافة تعود إلى قلّة الوعي من الشعوب، فباستثناء الحالات المتعلقة بالشرف التي لا تصل غالبيتها إلى المحكمة، لأنه يتمُّ التستّر عليها خشية الفضيحة، لكننا نجد أناساً يهربون من اللجوء للمخافر والقانون بسبب نظرية (إذا رآني الناس خارجاً من المخفر سيعتقدون أنّي مجرم) هذه النفوس الضعيفة التي تحول بين الواقع والمجتمع المتحضّر، الشخصيات التي يمكن شراؤها بالمال، والشخصيات التي تخاف الفضائح، وحتى الأشخاص الذين يعتبرون القفز فوق القانون بطولة وقوة شخصية، فما هؤلاء إلاّ ساذجين، لأن المجتمعات المتطوّرة هي التي تحترم القوانين فتسير وفق الضوابط، والحكومات الواعية هي التي تسنّ قوانين ملائمة للجميع بلا استثناء.