قليلٌ مني.. قليلٌ منك.. نحصد الكثير!

إيناس ونوس:

إن أيّ مجتمع بشري لا بدّ له من مجموعة مُركَّباتٍ تنتظم بشكلٍ هرميٍّ مُتفاعلةً مع بعضها حتى يتبلور الشَّكل النِّهائي لهذا المجتمع، وهذه المُركَّبات أو الحلقات مُتعدِّدة الأطياف، إذ تنطلق من الإنسان أولاً، وتنتقل إلى الحلقة الأوسع وهي العائلة، فالأوسع التي تُدعى بالوسط المحيط كالمدرسة أو الحي أو نطاق العمل، وبتجمُّع هذه الحلقات يتشكَّل المجتمع، وينمو بنموِّها.

واعتماداً على طبيعة كلِّ حلقةٍ وخصائصها وآليات نموِّها يكون شكل تطوُّر المجتمع ككل، فالعلاقة تبادليةٌ بحتة، ما يحدث هنا ينعكس بالضَّرورة هناك، والعكس، ولهذا فإن أيّة عملية هدم أو بناء لمنظومة التَّفكير والمُعتقدات والعادات والتَّربية و… إلخ، لا بدّ لها أن تشمل الجميع، غير أن بعض الحلقات أو المكوِّنات لها الحصَّة الأكبر من حيث التَّأثير والتَّغيير، سواء في السَّلب أو الإيجاب، ولهذا فهي تحظى باهتمامٍ أكبر من قبل المعنيين في الشَّأن العام.

وأول هذه المكوِّنات هو الإنسان/ الفرد/ المواطن، اللَّبنة الأولى وحجر الزَّاوية الأساس في عملية التَّحول والتَّطور، فحين يمتلك قدراتٍ وإمكانياتٍ خاصةٍ به، ثم يعمل على تطويرها وزيادة نموِّها ومتابعة كلِّ ما من شأنه أن يُحسِّن منها، يغدو فرداً فعَّالاً في وسطه المحيط (كبيراً كان أم صغيراً)، وأمسى مثالاً يُحتذى من قبل الآخرين، وهو ذاته القادر لاحقاً على بناء أسرةٍ متماسكةٍ متفاهمة، لاسيما إن اجتمع مع شريكٍ له الشَّخصية ذاتها ومقوِّماتها وبنيتها، وبتراكم هذه النَّماذج يتجسَّد المجتمع المُصغَّر، والمُشارك بطبيعة الحال في الصُّورة النِّهائية للمجتمع الأكبر.

من هنا، فإن التَّغيير الذي طال المجتمعات البشرية منذ القدم وصولاً إلى أيَّامنا هذه، قام على هذه الحلقات الأساسية، فالأم أو الأب اللَّذان يمتلكان وعياً خاصَّاً أكثر تطوُّراً عن وسطهما وينقلانه لأبنائهما عبر تربيتهم، يُساهمان في عمليَّة تبدُّل بعض المفاهيم الاجتماعية وبعض العادات والتَّقاليد، والانتقال التَّدريجي نحو الأسمى، وهو ما سيحمله الأبناء بانتقالهم للخارج مُترافقاً مع بعض الإضافات التي سيمتلكونها بحكم النُّمو العام والتَّطور سواء التُّكنولوجي أو المفاهيمي أو… إلخ، وتبدأ كرة الثَّلج بالتَّدحرج وازدياد الحجم، لتشمل مختلف مناحي الحياة وتحقِّق التَّغيير المنشود.

لا يمكن الفصل إذاً بين جانبٍ وآخر، فحين نُربِّي أبناءنا على مبدأ الحق والواجب، وأن الحرية الشَّخصية تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، نكون قد امتلكنا أول وأهم أساسيات التَّغيير، والأمثلة على هذا كثيرة لا تُحصى، ربما يمكننا طرح بعضٍ منها:

– يعتبر المنزل مكان الخصوصية البحتة لكلِّ إنسان، من حقِّه أن يتصرَّف كيفما يشاء فيه، شريطة مراعاة القليل من قواعد احترام الجيران، فالصَّخب والضَّجيج في اللَّيل مثلاً حين يخلد الآخرون للنَّوم، يجب ألّا يُعتبر حريةً شخصية.

– رمي النِّفايات في الشَّارع دون اهتمامٍ بعواقب التَّلوث البيئي الذي سينعكس أمراضاً على الجميع دون استثناء، لا يمكن له أن يتوافق مع محافظتنا على نظافة منازلنا الخاصَّة.

– استخدام الأرصفة المُعدَّة لخدمة الجميع لأغراضٍ خاصَّةٍ بأصحاب المحال التِّجارية وإغفال أحقية الآخرين فيها، من شأنه أن يخلق الكثير من المشاكل والأضرار، أبسطها اضطرار أطفال المدارس للسَّير في الشَّارع بين السَّيارات وتعرُّضهم لأذى الإصابة بالحوادث.

كما أسلفنا، فإنَّ عملية التَّغيير عمليةٌ تبادلية، وكما يحقُّ لي كمواطن الكثير من الحقوق، عليَّ أن أعترف أيضاً بالكثير من واجباتي. الأمر ذاته يجب أن ينطبق على الحكومات. وحتى نصل إلى ما ننشده من تغييرٍ في البنى التَّحتية للمجتمع وصولاً إلى التَّطور الأكبر، علينا أن نُعيد التَّفكير في منظومة قيمنا، وأن نتشرَّبها حقيقةً، لنحوِّلها لاحقاً إلى مبدأ أساسيٍّ في حياتنا، فتغدو أفعالاً بدل من أن تبقى مجرَّد أقوالٍ نتباهى بها أمام الآخرين، وأن نمتلك القناعة الحقيقية أخيراً بأن النَّتائج ستنعكس علينا جميعاً دون استثناء، وهي ليست بحاجة إلى عناءٍ كبير، فالقليل من هذا، والقليل من ذاك، بتراكمه وتداخله، سيكوِّن الكثير الذي سيستفيد منه الجميع.

العدد 1104 - 24/4/2024