الجزيرة السورية شرق الفرات.. جوهرة سورية ومحور الصراعات القادمة

د. منير الحمش:  

قد يبدو مستغرباً، أن أوجه شكراً خاصاً للرئيس الأمريكي ترامب، الشكر فيما إعلانه في 27 / 10 / 2019 عن نواياه الحقيقية تجاه سورية، وتجاه الجزيرة السورية وشرق الفرات بالتحديد ، عندما قال بصريح العبارة: إن المطلوب هو نفط وغاز هذه المنطقة، وهدد بالحرب ما لم تُمنح (الشركات النفطية الأمريكية) الحقّ ليس في استثمار آبار النفط، وإنما أيضاً في استكشاف وإنتاج ما تحتويه الأرض من هذه المادة (نفط وغاز)، وهذه صراحة يُشكر عليها لأنها تكشف جانباً من الأسباب الحقيقية للمشروع الأمريكي.

هذه المنطقة الغنية بما هو تحت الأرض، غنية أيضاً بما هو فوق الأرض، ففي خمسينيات القرن الماضي كانت تدعى (كاليفورنيا الشرق) فيما تنتظره بعد استثمار أرضها البكر. والاهتمام (الأوربي – الأمريكي) بالجزيرة وشرق الفرات ليس جديداً، فقد كان الغرب ينظر إلى هذه المنطقة نظرة خاصة. فبعد استكمال احتلال فرنسا للجزيرة السورية، حين دخلت إلى القامشلي عام 1926، اعتمدت فرنسا سياسة إثنية بدعم مشروعها لإقامة (كيان كردي- كلدوآشوري مع بعض القبائل العربية)، وتمثلت الخصوصية التي نظرت فرنسا بها إلى الجزيرة السورية، حين أبرق الرئيس الفرنسي (ميليران) إلى الجنرال غورو بعد احتلال سورية برسالة سرية، اعتمدت العناصر التالية من أجل تمكين عملية السيطرة على المنطقة:

– تحقيق الوفاق مع الأكراد استناداً إلى التحالف مع عشائر المالية الكردية في إطار (الاتحاد الملي).

– توطين عناصر كلدانية- آشورية على طول خط الحديد شرق الفرات.

وطرح ميليران في برقيته فكرة (التدخل الحذر في منطقة شرق الفرات) ثم عرض تقرير (ما إذا كان يجب توجيه هذه المناطق نحو نظام مستقل، أو دمجها مع الاتحاد السوري)، وأكد أنه (مهما يكن يجب في الوقت الحاضر إقامة تمييز واضح بين هذه المناطق شرق الفرات- والمناطق السورية الأخرى).

وقد وضعت السلطات الفرنسية، خطة (ميليران الكردية – الكلدو آشورية) في إطار أوسع، وهو خطة تجزئة سورية إثنياً، بهدف استكمال السيطرة على الشمال السوري، وإخماد الثورات المندلعة في أرجاء سورية ضد الانتداب الفرنسي، المتحالف مع الكماليين الأتراك، وذلك من خلال ثلاث سياسات تحالفية وهي:

  • السياسة الكلدو آشورية.
  • السياسة الكردية المتمثلة في التحالف مع العشائر الكردية (الملية).
  • السياسة البدوية العربية، وهي الأشد تأثيراً لأنها تشمل التحالف مع العشائر العربية جنوب سورية وفي البادية وشرق الفرات نحو الشمال.

وقد استخدمت فرنسا تحالفاتها مع بعض العشائر العربية، لتثبيت احتلالها لسورية، والواقع فإنه منذ دخول الجيش الفرنسي إلى سورية، تم تجنيد كل من نوري الشعلان (رئيس عشائر العنزة- الرولة، جنوب سورية)، ومحجيم بن مهيد (رئيس عشائر العنزة- الفدعان، شمال سورية).

وإذا كان هناك عداء بين الاثنين، إلا أن المشترك بينهما أصبح هو الموقف المعادي للحكم العربي بدمشق، والولاء للفرنسيين، في مقابل المال وتكريس زعامتهما العشائرية.

وإذا كنت من المؤيدين لفكرة (أن التاريخ لا يعيد نفسه) فإنني أصبحت أؤمن بأن التاريخ لا يعيد الأحداث نفسها، إنما يعيدها بقسوة أكثر وبدماء أكثر. ونجد الآن الولايات المتحدة تسير على هدى الانتداب (الاستعمار) الفرنسي، في سعيها للسيطرة على الجزيرة السورية وشرق الفرات، مستخدمة جميع ما هو متاح لها من أساليب، ومن معطيات على الأرض، ومن أوهام لدى البعض (من الأكراد)، والمطامع المالية لدى البعض الآخر (بعض العشائر العربية)، وبعض الشخصيات من المكونات الأخرى في المنطقة (تحت مختلف التسميات)، وقد برز دور بعض دول الخليج في هذا الشأن، إذ إنهم يمثلون (صندوق المال) للصرف بأوامر ترامب، أو من يمثله، تنفيذاً لمشروع السيطرة على الجزيرة السورية وشرق الفرات، واقتطاعها من الخريطة السورية.

 

الجزيرة السورية وشرق الفرات

المعطيات الأساسية

ولكي نعطي صورة أدق عن هذه المنطقة، علينا أن نلقي بعض الضوء على أهم بياناتها، وقبل ذلك علينا أن نشير إلى الإهمال المتوارث من قبل الحكومات المتعاقبة لهذه المنطقة، لا بل كان ينظر إليها أنها بمثابة منطقة نائية لنفي الموظفين إليها، في حال (غَضِبَ) المسؤولون عنهم عليهم.

وأذكر أنه في الخمسينيات من القرن الماضي، كان يصدر في القامشلي مجلة باسم (الخابور) لصاحبها المرحوم يعقوب شلمي، وكان يكتب افتتاحية في كل عدد، والافتتاحية المشهورة له كانت بعنوان (الموظف يأتي إلى الجزيرة (باكياً) ويذهب (باكياً)، فعندما يأتي يكون منفياً إلى بلد بعيد يفتقر إلى أبسط وسائل الراحة والخدمات، لكنه بعد أن يستقر فيها ويتعرف على أهاليها تطيب له الإقامة، فيبكي مرة أخرى عندما يأتي أمر نقله إلى مكان آخر.

وللأسف فقد استمر مثل هذا التعامل مع هذه المنطقة في مختلف العهود التي مرت منذ الاستقلال وحتى الآن.

تتكون المنطقة، الجزيرة السورية وشرق الفرات، على نحو رئيسي من ثلاث محافظات حدودية هي الحسكة، والرقة، ودير الزور.

من الشمال الشرقي توجد محافظة الحسكة، التي يحدّها من الشمال تركيا ومن الشرق العراق، مركز المحافظة مدينة الحسكة التي يمر فيها نهر الخابور، ويتبع لها 5 مناطق و19 ناحية و1193 قرية و1607 مزرعة، ويبلغ عدد سكانها (حسب سجلات الأحوال المدنية في 1/1/2010 (1) 1.450 مليون نسمة بنسبة 6.5% من مجموع سكان سورية.

وفي وسط المنطقة وشمالها تقع محافظة الرقة التي يحدّها من الشمال تركيا، وتحيط بها محافظات حلب والحسكة ودير الزور وحماة، مركز المحافظة مدينة الرقة وتقع على نهر الفرات، ويتبع لها 3 مناطق و12 ناحية و465 قرية و1057 مزرعة، ويبلغ عدد سكانها 996 ألف نسمة بنسبة 4.1% من إجمالي سكان سورية.

المحافظة الثالثة هي دير الزور التي يحدّها العراق من جنوبها، وجنوبها الشرقي، ومدينة دير الزور هي مركز المحافظة وتقع على الفرات، يتبع لها ثلاث مناطق و14 ناحية و86 قرية و68 مزرعة، ويبلغ عدد سكانها 1.623 مليون نسمة بنسبة 6.8% من إجمالي سكان سورية.

وهكذا يمكن القول إن نسبة سكان المنطقة إلى إجمالي سكان سورية هي 17.4%، في حين أن مساحتها الإجمالية تبلغ 6.7 ملايين هكتار، أي بنسبة 41% من إجمالي مساحة سورية.

وتبلغ المساحات القابلة للزراعة 2.6 مليون هكتار، بنسبة 43% من مساحتها، وما تبقى 41% مروج و20% مراعي.

تعتبر المنطقة أهم المناطق الإنتاجية في سورية، فهي تسهم بإنتاج 68-78% من القطن، و60% من إنتاج القمح، و33% من الشوندر، و62-72% من إنتاج الذرة الصفراء.

وفيها ثروة حيوانية هامة تشمل 33-39% من إجمالي عدد رؤوس الماعز، و36-41% من إجمالي عدد الأغنام، و31-34% من إجمالي عدد الأبقار.

والمنطقة غنية بالنفط والغاز، وتعتبر المنتج الرئيسي لهاتين المادتين، والمكتشف فيها يكاد لا يمثل إلا جزءاً بسيطاً مما هو في باطن الأرض الذي لم يكتشف رسمياً بعد. وهذا كلّه عدا الثروات غير المعروفة وغير المعلن عنها من المعادن والمواد الثمينة.

ونعتقد أن لدى الولايات المتحدة (خاصة) معلومات أدق مما لدينا حول الثروة النفطية والغازية وغيرها من الثروات، مما يجعل (لعاب) السيد ترامب يسيل، وهو المعروف بحسّه (المقاولاتي).

إلا أننا نعتقد أن لهذه المنطقة أهمية خاصة تدفع أوربا وأمريكا للاهتمام المتزايد بها، وهذه الأهمية هي موقعها الجغرافي الذي يكسبها أهمية جيوسياسية خاصة، وهذا ما أكسبها أهمية حضارية عبر التاريخ، مما يمنحها ميزة إضافية كموقع سياحي وتراثي.

في ضوء تلك البيانات، وفي ضوء السياسات (المتكالبة) من الدول الكبرى والمجاورة، فإننا نتوقع أن تكون هذه المنطقة موقعاً لصراعات إقليمية ودولية حادة.

 

(1) الأرقام الإحصائية في هذه المقالة مأخوذة من (المجموعة الإحصائية السورية لعام 2010).

العدد 1102 - 03/4/2024