اعتلال بداهة
عباس حيروقة:
كنا قد تحدثنا غير مرة ومن على غير منبر عن مسألة جد هامة، وتعتبر من بداهة الثقافة ومن أبجدياتها الألف بائية، ألا وهي تقبّل الرأي الآخر وقبوله، باعتبارها من أبسط الحقوق التي يجب أن نتمتع بها ونعمل على تعزيزها لتصبح سمة خاصة يتسم بها حقلنا هذا حقل الثقافة والمعرفة، ومن ثم تنتقل تجاه جميع مفردات حياتنا اليومية.
وظاهرة الاختلاف في الرأي جد حضارية وضرورية، على أن لا تتطور وتصبح خلافاً وتورث العداء والبغيضة، فالغنى بتعدد الرؤى والآراء وتنوعها، وحيوية أي مشهد، أكان ثقافياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو دينياً …الخ، تتجلى في التعددية والتشاركية في ظل قانون يتيح ويسمح ويحمي ويكفل هذا الحق للجميع. كل هذا وذاك يفتح الآفاق للجميع ويدفعهم لقول رؤاهم وقناعاتهم وثقافاتهم أو طرحها، بحرية مطلقة وجرأة لابد منها.
كل هذا يؤسس لثقافة التغيير والتغيّر وفق منهج يسهم ويساهم في إعادة العمل على منظومة مجتمعية جديدة، بأدوات جديدة مغايرة ومختلفة عن سابقاتها وآخذة تجارب المجتمعات الأخرى في الحسبان، لتجاوز هنات وقعت بها تلك المجتمعات.
سُقت هذه المقدمة للحديث عن حالات لا تقبل الاختلاف عليها، لأنها لا تقبل القسمة أبداً، وتمثل أو من البداهة أن تمثل حالة (إجماعية) من الإجماع المطلق على الشيء لدى كل ذي بصر وبصيرة: الوطن، حب الوطن، حماية الوطن …الخ. والوطن هنا من حيث هو سيادة أرض وسماء وماء.
فمثلاً من الممكن أن نختلف على مفهوم الحداثة، على مشروعية قصيدة النثر، على الــ ق.ق.ج، على رائد قصيدة التفعيلة أو روادها، على مفهوم الشعر والشعرية …الخ. كل هذا جائز وممكن، ولكن مما يجب ألا نختلف حوله أو ألا نسمح بالاختلاف به هو الوطن، حب الوطن وأهل الوطن وسيادة الوطن، وحمايته وحمايتهم.
وما عاشته ومازالت تعيشه سوريتنا النور من حربٍ لم يسبق لوطن أو مجتمع أن عاشها بتلك التفاصيل المرعبة والمخيفة والخارجة عن كل قوانين حروب العالم، حرب هي الأطول من حيث المدة الزمنية التي استمرت حتى تاريخه لأكثر من ثمانية أعوام، وشارك فيها من شارك من تكفيريين جاؤوا من أكثر من ثمانين دولة، حاملين ثقافة عفنة طائفية مذهبية قومية عرقية، ثقافة موت وتقطيع أوصال وبقر البطون وقطع الرؤوس والصلب …الخ من مفردات لم تكن يوماً من قاموس حياة إنساننا السوري.
هذه الحرب، منذ إرهاصاتها، وجدت لها أبواقها الشاذة والنشاز من مثقفين وساسة وعسكر ورجال دين، توزعوا وتبادلوا الأدوار تحت شعار واحد وهدف واحد وحسب هو تدمير البنية المجتمعية السورية وضرب مؤسساتها، وفق أجندات لم تكن خافية على أحد، واتضحت بشكلها السافر عقب اعترافات قادة دول ساهمت في ضخ كل ما من شانه تدمير شعب سورية وحضارة سورية.
عقب كل هذا وذاك الذي ساهم في اتضاح رؤية جلية وواضحة للعيان، لن أسأل عن موقف السياسي والاقتصادي والديني، ولكن أسأل: ما موقف المثقف السوري الذي ارتضى أن يكون بوقاً لدولة معادية تخريبية؟!
المثقف، الذي من البداهة أن يكون أكثر قدرة وحيوية على قراءة واقعية واستكشافية واستبصارية للواقع، والذي تمكّنه من قراءة ورؤية ما خلف السور واستنباط ما يجب القيام به، ليكون كما يجب أن يكون ضمير أمة وشعب، ما موقف المثقف من اعتراف سياسي دولة ما حين قال: إن دولته كانت تدفع لفلان وفلان من شخصيات شغلت ما شغلته من مناصب ثقافية، كما شغلت حيّزاً فكرياً إبداعياً في مرحلة ما؟؟ دفعت لهم، بهدف إطلاق تصريح هنا وتسجيل موقف هناك من شأنه زعزعة البنية المجتمعية (طائفياً) لبلده؟!
نعم، ثمة أدباء وللأسف اختاروا، في مرحلة مبكرة من الحرب، الالتحاق بالغرب أو الانضمام إلى الطرف الآخر المعادي، وأصبحوا يخوضون حرباً بمصطلحات طائفية مذهبية قومية مقيتة وغريبة عن ثقافة السوري الحقيقي.
نعم، حقيقة الحرب أكدت أن المثقف السوري في مأزق حقيقي ومأزوم، إذ وضع نفسه في اصطفافات لا تليق به ولا بفكره ولا بمؤلفاته النقدية والإبداعية الأدبية، وما هذه الأصوات التي تخرج من هنا وهناك ومن على منابر ثقافية عربية وغربية إلا مؤشر لما أتينا على ذكره. أولئك هم وكما قلت وكتبت وبعد أشهر قليلة مما أصاب سورية (مصابون بداء اعتلال البداهة).
ولكن، من المحزن والمؤسف جدا أن أصحاب تلك الأصوات التي تنتقد تلك المرحلة وتصفها بأبشع الصفات، من فساد وقمع واستبداد …الخ، هي التي كانت في سدّة القرار الثقافي والسياسي، وإن لم تكن كذلك فهي من أكثر المنتفعين آنذاك، وهي كذلك فعلاً، كما وصفوها، بحكم وجودهم هم وأمثالهم كأساطين وسدنة حقبة زمنية طويلة، فأساؤوا أيّما إساءة لمكون المجتمع السوري ككل، فكانوا يعتبرون هذه المؤسسة أو تلك بكل مكوناتها مزرعة لهم، يُدخلون إليها من يشابههم خلقياً وأخلاقياً وحسب، ويغلقونها في وجه كل صاحب رأي مغاير، مخالف لإيديولوجيتهم.
هذه النماذج لم تكن ولن تكون لا ضمير أمة، ولا ضمير سوري ما. فإن ضميرهم يكون حيث مصالحهم وحسب. هؤلاء، الذين يشتمون ويسبّون من على منابر تلك الدول التي تضخ كما قلنا آنفاً كل ما من شانه تخريب سوريتنا وتدميرها، سنجدهم حين تتضح – وها هي ذي ترتسم بجلاء جميل – ملاحم انتهاء الحرب وانتصار أنهار سورية وينابيعها على ألسنة النار وجيوش الجراد، سنجدهم يعملون على تغيير جلدتهم كالحرباء، ويبحثون عن سبل وطرق العودة من أحضان العرعور والقرضاوي وأردوغان ومن يشابههم، إلى (أحضان الوطن) تحت شعارات باتت معروفة للجميع. ولكن كل ما نخشاه أن يعودوا كما كانوا في سدة قرار ثقافي ما، وأن يمارسوا ما مارسوه سابقاً من إلغاء وتغييب وتخوين لكل من يناقضهم ويخالفهم في رؤية ما.
هذا لا يلغي ولا يغيّب وجود أدباء وكتّاب كانوا على خطا أولئك الرجالات، رجالات جيشنا، حماة أحلامنا وأناشيدنا، وعلى خطا أولئك الشهداء الذين مازالوا يفتحون نوافذ الضوء والنور، ويبتسمون لنا حينما تطير عصافير قلوبنا مردّدة في كرنفال وطني سوري بامتياز: موطني.. موطني!
وكذلك: حماة الديار عليكم سلام!
وسورية يا حبيبتي!