مفهوم التنمية اليوم.. وأولوياتها
بشار المنيّر:
طرحت تداعيات الأزمة السورية، وما سبّبه الإرهاب من هدم، وتخريب، وحرق للبنية التحتية، والمنشآت الاقتصادية، والمآسي المتعددة التي أصابت السوريين (الهجرة، الفقر، البطالة، تدمير المنازل)، طرحت أمام الحكومة السورية مهمة إعادة الإعمار، وبدأت أوساط أجنبية وداخلية، مرتبطة بالمنظمات والصناديق الدولية، بتحضير سيناريوهات متعددة، ويقدر بعض الخبراء أن خسائر البلاد تجاوزت 400 مليار دولار.
إن إعادة الإعمار بعد طرد الغزاة، والتوافق بين مكونات الشعب السوري السياسية والاجتماعية على مستقبل بلادهم، ليست توجهاً تنموياً شاملاً إلاّ بالقدر الذي نريده، فالبعض فهم من إعادة الإعمار مجرد أبنية وشبكة للبنى التحتية، وآخرون يرون فيه فتح الأبواب أمام المساعدات والقروض، والعقود، والسمسرة، وبرامج المؤسسات الدولية، من هذه الزاوية، وبالنظر إلى إخفاقات الخطط التنموية في الماضي في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة والمتوازنة، لا بد من جهة ثالثة، غير الحكومات والقطاع الخاص، تساهم في عملية التنمية، مستفيدة منها، حريصة عليها أكثر من حرص الحكومة المتواضع على تلبية متطلبات التنمية الاجتماعية، وأكثر من القطاع الخاص المتردد، الذي يفضل استثمار أمواله في المشاريع ذات الدورة السريعة للرساميل؛ إنها المجتمع بجميع فئاته ومنظماته المدنية الطوعية.
المشاركة المجتمعية
تركز الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في المؤسسات الدولية، اليوم، على أهمية إشراك المجتمع المدني في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وضرورة الاستفادة من الطاقات المادية والإدارية والرقابية لهيئاته ومنظماته المختلفة، باعتبارها المستفيدة الرئيسية_ كممثلة لأوسع فئات المجتمع_ من ثمار هذه التنمية.
عَرّف إعلان (الحق في التنمية)، الذي أقرته الأمم المتحدة في عام ،1986 عملية التنمية بأنها (عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المستمر لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية).
لقد اندثر النموذج الغربي للتنمية الذي أسسته الرأسمالية الأوربية متأثرة بوجود الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى بعد الحرب العالمية الثانية، الذي قام على مفهوم السوق وآلياته من جهة، وتدخل الدولة وهيئات المجتمع المدني من جهة ثانية، والذي أنتج تنمية اقتصادية واجتماعية مطعمة بقوانين العدالة الاجتماعية في أوربا الغربية، وسادت بعد ذلك مفاهيم الليبرالية الاقتصادية الجديدة، منذ منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، التي اختزلت عملية التنمية في البلدان النامية باتجاه وحيد، هو السوق الحر من كل قيد أو تدخل أو توجيه من قبل الحكومات. وعملت الولايات المتحدة والصناديق الدولية على تصدير هذا النموذج مستغلة حاجة الدول الاشتراكية سابقاً، والدول النامية الأخرى، إلى إعادة هيكلة اقتصاداتها بعد انهيار الاشتراكية، لكن هذا النموذج فشل في تحقيق تنمية اقتصادية فاعلة في مجموعة من الدول، وصار لزاماً على الدول الفتية الساعية إلى تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية البحث عن مخرج لتخلفها الاقتصادي والاجتماعي، بانتهاج اقتصاد مختلط تندمج فيه آليات السوق مع التخطيط للتنمية الاجتماعية، أي مشاركة الرأسمال الخاص وقطاع الدولة في توليد فرص جديدة لزيادة الدخل الوطني، عن طريق تشجيع الصناعة والتجارة والاستثمار، والحفاظ على قطاع عام اقتصادي فاعل، وقيام الحكومات بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الناتج بين الفئات الاجتماعية، عبر شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً كالتعليم، والضمان الاجتماعي، والصحي، وتنمية المناطق المتخلفة، واستهداف بؤر الفقر، تلك المهام التي لا تدخل في برامج القطاع الخاص وخططه.
إنّ توسيع المشاركة الشعبية، عن طريق المجتمعات الأهلية في الريف، وهيئات المجتمع المدني على تنوع تنظيماته، في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يضمن لهذه العملية سيرورتها المنطقية الملبّية لمصالح الجميع، لكن هذه المشاركة تتطلب تشجيع منابر التحاور وتبادل الأفكار والتعبير عنها بحرية، وإقامة قنوات مفتوحة بين المواطنين والدولة، وهذا ما يستلزم بداية وضع دستور ديمقراطي يحفز على تشكيل هذه المنظمات الطوعية، ويعزز دور مؤسسات المجتمع المدني لتأتي تعبيراً عن خيارات المجتمع، كما تقتضي تكريس سيادة القانون، وتوفير الآليات الفعالة التي يمكن للمواطنين من خلالها ممارسة حقوقهم التي ينص عليها الدستور، كما تتطلب تعميم ثقافة الحوار، وأهمية الآخر، ورأي الآخر، والفائدة من مشاركة الآخر.
خطة حكومية
إن ذاكرة السوريين لم تنسَ بعدُ، ولن تنسى ما أدت إليه السياسات الاقتصادية النيوليبرالية في العقد الماضي، ولن تنسى أيضاً كيف استغل الخارج غضب سائر الفئات الاجتماعية، الناقمة على معاناتها المعيشية.
لذلك نرى أن إعمار ما تهدم لن يتحقق بالاستناد إلى سياسات اقتصادية كانت السبب في تحجيم قطاعاتنا المنتجة، وفي إثارة غضب الجماهير الشعبية، بل يتحقق بعد توافق السوريين على نهج اقتصادي تنموي، تعددي، استناداً إلى خطة مركزية حكومية، لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة، يساهم فيها القطاع الخاص والرساميل الوطنية، ولا تهيمِن ولا يهيمَن عليها، خطة تضمن التوازن بين متطلبات النمو الاقتصادي الناتج عن قطاعات الإنتاج الحقيقي لا الريعي، ومتطلبات التنمية الاجتماعية، تتوزع على مدد زمنية محددة، وتُستخدم لتنفيذ هذه الخطة المواردُ المحلية الحكومية، ومساهماتُ القطاعات الخاصة المنتجة. كما يمكن الاستفادة من قروض الدول الصديقة والشقيقة، وقروض الصناديق المالية الدولية غير الخاضعة لهيمنة الأمريكيين، ومن برامج التنمية التابعة للأمم المتحدة، والمنح والتبرعات غير المشروطة، وسندات الخزينة المخصصة حصراً لتنفيذ مشاريع الإعمار، والاعتماد في تنفيذ هذه المشاريع على الشركات والمؤسسات الحكومية، وخاصة شركات الإنشاءات العامة.
إن حجم الأضرار التي لحقت بقطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي والنفطي يشير إلى صعوبة المهمة التي يجب على الحكومة السورية التصدي لها، إذ يتطلب الأمر خطة حكومية محكمة، ومرنة في آن، فمن المستحيل التصدي لهذه المهمة بضربة سيف قاطع، ودفعة واحدة، إذ تحدد هذه الخطة مشكلات كل قطاع على حدة، والأوليات الضرورية لإنهاضه، ومشاريع إنشاء أو إصلاح البنية التحتية التي يحتاجها، وذلك ضمن برنامج زمني شبكي يتقاطع مع المشاريع الأساسية والخدمية الضرورية لجميع القطاعات الأخرى.
ونقول هنا صراحة: إن البعض يستعجل بدء عملية الإعمار، حتى قبل وضع الخطط الحكومية المناسبة، وقبل تدبير مصادر التمويل، وذلك بهدف اقتناص العقود، وتأمين (الشركاء)، وأخذ العملية برمّتها إلى المنحى الذي يُرسم لها في الدوائر الأجنبية و(المحلية) المشبوهة.
هذه الخطة الحكومية (الإنقاذية) يجب أن توضع بالتعاون مع ممثلي الرساميل الوطنية في الداخل وبلاد الاغتراب، وجميع القطاعات المنتجة في القطاعين العام والخاص، وخاصة مع الغرف الصناعية والتجارية، ورجال الأعمال (الحقيقيين والوطنيين) بعيداً عن فرض الرأي، والأساليب البيروقراطية التي اعتدنا عليها أثناء إعداد الخطط الخمسية في العقد الماضي.
ونقترح هنا أن تكون شعارات الخطة الخمسية العاشرة، التي لم تتحقق، هي شعارات الخطة العتيدة:
مجتمع سوري يعتمد على ذاته وينفتح على الخارج_ بالقدر الذي يخدم مصلحة البلاد_ مجتمع ديمقراطي ناضج ومعاصر، مطوراً لموقعه العربي، ومعززاً لموقعه الدولي، ينهض بمستوى الرفاه الاجتماعي وينجز العدالة الاجتماعية وفق اقتصاد وطني متنوع المصادر يؤمن بنية تحتية عالية النوعية، مسلحاً بثقافة حية، ويرتكز على رصيد عال من رأس المال البشري والفكري، معتمداً على ثقافة الجودة والكفاءة والعقل النقدي، والشخصية السورية المتمكنة. ونرى ضرورة السعي الجدي لعودة جميع المناطق التي كانت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية إلى حضن الوطن، فبعض هذه المناطق تؤمّن الموارد اللازمة لتمويل الخطة العتيدة، وخاصة المنطقة الشرقية التي تعد مستودع الغذاء ومكمن الثروة النفطية، فدون مساهمة القطاع النفطي والمحاصيل الاستراتيجية في رفد الخزينة بالإيرادات، يصعب تمويل تكاليف إعادة البناء بالموارد المحلية، وتخضع حينئذ لابتزاز المانحين، والمقرضين، والمتدخلين، وأصحاب الوصايا والشروط.
أولـويات المرحـلة
نقترح أن تتمركز هذه الخطة الحكومية على الأوَّليات التالية:
1-إعادة تأهيل البنية التحتية وفق برنامج زمني يأخذ بالحسبان مستلزمات إعادة إقلاع قطاعات الإنتاج الرئيسية، ونعني هنا تأهيل الطرق ومشاريع الطاقة الكهربائية وسكك الحديد وغيرها.
2- مساعدة القطاع الصناعي العام والخاص على إعادة بناء ما تهدم من المنشآت، وتأمين مستلزمات الإنتاج، وتوجيه المصارف العامة والخاصة لتسهيل سياسة الإقراض.
3-إعادة النظر بسياسات الانفتاح والتحرير، ولا نعني هنا العودة إلى غلق الأبواب، بل الانفتاح على الاقتصاد الإقليمي والدولي بقدر ما يحقق الفائدة لصناعتنا الوطنية وإنتاجنا الزراعي، ومراجعة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي وقعتها الحكومات السابقة، وإلغاء ما كان منها مجحفاً وضاراً بقطاعاتنا الإنتاجية.
4-وضع برنامج واضح لإصلاح القطاع العام الصناعي، والاهتمام بالمصانع الصغيرة والورشات والحرف والمشاغل، التي تشغّل الجزء الأكبر من اليد العاملة في البلاد، ومساعدتها على تأمين مستلزمات الإنتاج من مواد أولية وطاقة، وتسهيل حصولها على القروض المصرفية.
5- ضمان الأمن الغذائي في البلاد عن طريق الدعم الدائم لقطاع الزراعة، والاستمرار في تنفيذ المشاريع المائية، ومصانع السماد والعلف، وتنمية الثروة الحيوانية، ومنح التسهيلات لمشاركة القطاع الخاص في إقامة المشاريع الصناعية_ الزراعية في المحافظات الشرقية.
6-الحفاظ على ملكية الدولة وإدارتها للمرافق الحيوية والاستراتيجية، كالمرافئ والمطارات وقطاعات الكهرباء والمياه، وتحديث طاقمها الفني والإداري، وإعادة النظر ببعض التشريعات التي تفوح منها رائحة خصخصة هذه المرافق.
7- دعم صناعتنا الوطنية وتحديثها، وتقديم ما يلزم من تسهيلات كي تصبح هذه الصناعة فعلاً، لا قولاً، قاطرة التنمية في البلاد، وحصر نشاطات الشركات الاستثمارية الكبرى والقابضة بالمشاريع الأساسية ذات التكاليف الاستثمارية المرتفعة، لا في المطاعم والمنتجعات. وتوجيه القطاع المصرفي الخاص والعام نحو المساهمة في المشاريع الكبيرة الملحوظة في خطة التنمية، وإطلاق القروض العامة (سندات الخزينة) لتمويل المشاريع الاستثمارية حصراً.
8-قيام الحكومة بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الوطني بين الفئات الاجتماعية، عبر إعادة النظر بالنظام الضريبي ليكون عادلاً وفاعلاً، وتأسيس شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً، كالتعليم المجاني المتطور، والضمان الاجتماعي والصحي، وتنمية المناطق المتخلفة، واستهداف بؤر الفقر، وسن التشريعات التي تساوي بين المرأة والرجل.
9- مكافحة الفساد بجميع أشكاله وتجلياته، فهو يعطل تنفيذ الخطط التنموية، ويحبط آمال الجماهير الشعبية بأي جهد لإنهاض الاقتصاد وإعادة الإعمار.
(*) عضو جمعية العلوم الاقتصادية.