إذا قطعتم أصابع كفّي.. سأرسم بأصابع قدمي!
عبد الرزاق دحنون:
هي الحالة الأولى في تاريخ فن الكاريكاتير التي يجري فيها قتل فنان كاريكاتير رمياً بالرصاص، بسبب رسومه. ما الذي أزعج الطَّاغية وعكَّر صفو مزاجه حتى يأمر بقتل رسام كاريكاتير عبَّر عن هموم العامة بالحبر الصيني الأسود الرخيص؟ وهل يمكن لهذه الرسوم السياسية البسيطة الساخرة أن تهزَّ عرش الطَّاغية وتدفعه لقتل خصمه علناً على قارعة الطريق في وضح النهار؟ حالة غريبة ونادرة تحتاج إلى دراسة وتفسير.
أغلب الظنّ أن محنة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، ابن مخيم (عين الحلوة) في السُّخريَّة من القيادة السياسية تشبه إلى حد بعيد محنة ابن المقفع مع المنصور أبو جعفر، ثاني خلفاء بني العباس:
كان الفرن مشتعلاً، قُيِّد ابن المقفع إليه، توقف أمامه، فقال له سفيان بن معاوية: والله يا ابن الزنديقة لأحرقنّك بنار الدنيا قبل الآخرة. وذلك يعود إلى أن ابن المقفع كان يعامل والي البصرة بازدراء وسُخريَّة. كان في وجه سفيان أنفٌ هائل الحجم، وعندما كان ابن المقفع يلتقيه يُحيِّيه بقوله: السلام عليكما! كان يعتبر أنفه شخصاً مستقلاً، ملصقاً بوجهه، لهذا تربص به حتى جاء الوقت المناسب فألقاه في الفرن. كيف سنحت الفرصة لقتل ابن المقفع؟ وما خطيئته؟ من المؤكد أن ابن المقفع افترض في الكلمة خاصيَّة سحريَّة وفي إمكانها تغيير العالم. سعى في خطوته الأولى لتغيير الذين يستطيعون التغيير، فأرسل للمنصور رسالة صغيرة الحجم عظيمة القيمة سماها (رسالة الصحابة) نصح فيها الخليفة بحسن اختيار بطانته وحسن سياسة الرعيَّة. سخط الخليفة مما جاء في الرسالة من جرأة تنال من هيبة وقداسة السلطان وحاشيته، فأمر عامله في البصرة بوضع ابن المقفع في الفرن.
أتساءل مع الباحثة المصرية الدكتورة هالة أحمد فؤاد: متى تمارس السلطة سلوكاً عنيفاً يصل حد الغضب المستعر وممارسة الانتقام والتصفية الجسدية لأحد منتقديها حين يتطاول ويتجرأ عليها علانية؟ أتصوّر أن يحدث هذا التحول في سلوك السلطة حين ينال فعلياً من سطوتها وهيبتها، وتزداد وطأة المسألة وخطورتها حين لا يكتفي بقول الحقيقة عارية، بيد أنه يحاصر الطَّاغية ويراقبه ويخترق عوالمه السرية منتهكاً قدسيته المزعومة. وأودُّ لفت النظر إلى ملحوظة مهمة هي أن الوقوف مع الرعاع وإظهار أقوالهم المتداولة الفاحشة حول الطَّاغية وحاشيته والتشجيع عليها، والذهاب أبعد مدى في فضح أسراره، تدفعه ليكون أشد عنفاً ودمويَّة في ردود أفعاله.
ولعل المضمر الأكثر عمقاً وتخفّياً وراء هذا الغضب المستعر نحو رسام يتكئ في سلامته الشخصية على تضامن الرعاع من قومه في مخيمات الفقر والفاقة، هو إدراك الطَّاغية عجزه عن فهم نوازع هؤلاء البسطاء ومبررات هجائهم السافر. فقد قيل إن ناجي العلي تلقى تهديداً من القيادة السياسية بقطع أصابع يديه إذا استمر بالسخرية في رسوماته اليومية من القيادة وزعيمها. فكان رد ناجي العلي مزيداً من الرسومات التي تطال هيبة الطَّاغية وبطانته. وقال متحدِّياً ساخراً في آن معناً: إذا قطعتم أصابع كفّي فسأرسم بأصابع قدمي!
وتؤكد الباحثة المصرية الدكتورة هالة أحمد فؤاد أن من المثير للانتباه حقاً أنه كلما زاد القمع وتعددت ضروب المذلة والإهانة والإحباط اليومي، كان هذا دافعاً نحو المواجهة العلنية السافرة. أي إن الطَّاغية الأشد قمعية هو الأكثر تعرّضاً لأعنف تعبير عن الغضب. ويفسر لنا جيمس سكوت هذه المسألة تفسيراً مهماً لافتاً، فهو يرى أن الخضوع والإذعان الإكراهي لا ينبئ عن استسلام حقيقي أو اقتناع فعلي، بل إنه نتاج الخوف من العقاب والبطش. وكأن الإكراه والعسف يحصّن المقموع ضد الإذعان ويولّد لديه الرغبة العارمة في التمرد. فإن ميدان تفجُّر التحدي العلني سيغدو دوماً الميدان الأكثر براحاً وحرية. بل إن هذا الميدان سيغدو مساحة يكتشف عبرها كلٌّ من القامع والمقموع طاقاته الحقة وإمكاناته المضمرة عبر بلوغ الصراع بينهما ذروته وتوتره، مابين تجاوز المقموع لكل الحدود وانتهاكه لكل المعايير والقيم من ناحية، وعنف الرد ودمويته من قبل الطَّاغية من ناحية أخرى.
أتساءل مع الفنان يوسف عبدلكي: هل حشا ناجي العلي كاريكاتيره بالديناميت حتى أعطى هذا التأثير المتفجر المميت؟ نحن نستعمل تعبير: قتل الموضوع بحثاً، وهذه العبارة أحياها من جديد عميد الأدب العربي طه حسين، فهل أَشبع كاريكاتير ناجي العلي الطاغية قتلاً؟ في العادة يتناول رسام الكاريكاتير الشخصيات السياسية العامة بلطف وحرص شديدين، كرئيس الدولة، أو أمين عام الحزب، أو جلالة الملك أو السلطان المعظم، أو دولة رئيس الحكومة وحاشيته. ناجي العلي قلب هذه المعادلة، فشخصياته من الرعاع المهمشين العاديين أبناء المخيمات وبيوت الصفيح الفقراء المساكين: زينب ومحمد وفاطمة وعائشة وحنظلة. هكذا أصبح القارئ لا يطالع في رسومه المواقف الرسمية من الأحداث والردود عليها وكشفها، بل يطالع ما يقوله رجل الشارع عبر الحياة السياسية اليومية، بلسانه الفضّاح الجارح الساخر معلّقاً تارة، شاتماً تارة أخرى. ونكاية بالطَّاغية وحاشيته الفظَّة الغليظة القلب، صنع لها من يوبّخها كلّ مطلع فجر، إنه حنظلة ابن المخيم ذي السنوات العشر. وهو دائماً (عاطي ظهره)، لذلك يستحيل على أجهزة الأمن والمخابرات كشفه. وهو دائماً حافٍ، مسحوق، مرقّع الثوب، ولكنه في النهاية لا يخسر شيئاً. وضعه كضمير حيّ، واعٍ، عين ترصد كلّ ما ترتكبه السلطة السياسيَّة من موبقات. وهنا تكمن خطورة كاريكاتير ناجي العلي الذي أرّق مضجع الطاغية وأقلق راحته، فأمر بقتله رمياً بالرصاص.