الفقر واضمحلال الفرص يعززان الطابع الوصائي

سامر منصور: 

يسود اعتقاد خاطئ أن الوالدين في دول الغرب أقلُّ تعلقاً بأبنائهم، وأن الأبناء يغادرون بيوت آبائهم بعد بلوغهم سنَّ العشرين تقريباً، ويحققون استقلالاً مالياً ويشرعون في تأسيس حياة مستقلة.. وحقيقة الأمر أن هذا الاستقلال والابتعاد عن منزل النشأة سببه إرادة الأبناء أنفسهم وليس رغبة الوالدين بذلك، إذ تُعدُّ معظم دول الغرب اقتصادات عملاقة وهي بلاد الفرص، وأنماط الحياة تسير فيها بشكل مُتسارع ومُتغيّر، ممّا يُقدّم مُغريات للأبناء للانطلاق بحثاً عن واقع معيشي أفضل، وتحصيل الاستقلالية بشكل مُبكّر قياساً لشبّان وشابّات الدول المتخلفة أو النامية. وتلعب عوامل مثل وجود شركات عالمية كبرى أسّست وانطلقت من دول الغرب وبحاجة دائمة للمزيد من الطاقات البشرية، إضافة إلى أنظمة الجامعات الكبرى والرائدة عالمياً، والتي تتكفّل بالطلاب وتُشكّل سنداً لهم، لا بل وتمنحهم قروضاً دراسية بمبالغ ضخمة وقروضاً من فئات أخرى، وتؤمّن لهم سكناً جامعياً لائقاً ومريحاً ومرافق خدمية وترفيهية مُميّزة.

كل هذا يمنح الفئة الشّابة بدائل مُحبّبة عن منزل العائلة، ومنصات للانطلاق نحو تأسيس حياة مستقلة. بينما نجد في دول عديدة كروسيا وعدد من البلدان العربية أن أجيالاً متعددة من الأسرة تقيم في المكان ذاته، وإذا أردنا الحديث عن سورية تحديداً، فاستقلالية الجيل الصاعد أضحت مسألة في غاية الصعوبة بعد انخفاض دخل الفرد بسبب الحرب، فكما تعيش الكائنات الضعيفة في مجموعات كبيرة لتتعاون في صراع البقاء، كذلك يعيش الضعفاء اقتصادياً (الفقراء) فيتقاسمون إيجار المنزل ويستعملون التجهيزات والأدوات الكهربائية ذاتها، ويستعيرون الثياب والأشياء بعضهم من البعض الآخر.. فتجد عائلات بأكملها تعمل في التهريب أو التعفيش أو أعمال شريفة بسيطة كباعة خضار (على بسطة) فترى الأجيال تتناوب لإتمام تلك الأعمال وتحصيل ما يسدُّ الرمق. فإن كانت الطيور تُعلّم صغارها الطيران، فتترك تلك الأخيرة العش نحو أفق مفتوح لتؤسّس عشّها الخاص وحياتها، فنحن اليوم في سورية مع الأسف أمام جيل صاعد مقصوص الجناح، صادرت فضاءه الحرب الاقتصادية التي تشنُّها الولايات المتحدة الأمريكية في إطار مساعيها لإجهاض عملية إعادة الإعمار في سورية، إضافة إلى الفساد وجشع فئة تُجّار الأزمة.

إن ابتعاد الجيل الصاعد عن فرص الاستقلال المالي، الذي يُشكّل عصب الاستقلال الحياتي، يُعزّز الطابع الوصائي الذي يمارسه الجيل الأكبر سنّاً عليه، ويجعله مُنقاداً إلى الطاعة التي لا تكون نابعة عن قناعة بالضرورة، وقد شهدنا مثلاً في مشاهد تقدّم الشّابّات للامتحانات مؤخراً، مشاهد من تزاحم الأهالي عند أبواب القاعات الامتحانية، كي يضمنوا عدم ذهاب أولئك الشّابّات في مواعيد غرامية بعد الامتحانات. وعن نفسي لا أستطيع لوم الأهالي لأني ألحظ تضاعف عدد العاهرات والممارسات الجنسية في الحدائق العامة التي أصبح بعضها مرتعاً للانحلال الأخلاقي خلال فترة الحرب، وأنا هنا لا أتحدث عن عاهرات المال، بل عن (عاهرات المزاج) وهنَّ فتيات غَرَّرَ بهنّ الشباب وأفسدوهن حتى فقدن الايمان بالعلاقات الإنسانية السوية والمتكاملة، فغدون عاهرات مزاج. وإن ما نراه من ثقة مهزوزة لدى الأهالي بأبنائهم له مبرراته الموضوعية، ولعلّه يساهم في انحسار الانحلال الأخلاقي شريطة أن تكون هذه الرقابة الأُسرية مرحلية ومترافقة مع مساعي توعوية، أي فقط ريثما يتبلور وعي الأبناء وحسّ المسؤولية، فيستحقون أن تُتاح لهم الحرية في إنشاء العلاقات الاجتماعية.

العدد 1102 - 03/4/2024