لا تخسروا أبناءكم بعواطفكم
إيناس ونوس:
منذ سنواتٍ ليست بالقليلة، باتت امتحانات الشَّهادتين تُشكِّل المصدر الرَّئيسي لقلق الأهل، سواء من الناحية المادية وكيفية تأمين المبالغ الهائلة التي يجب دفعها لقاء الدُّروس الخصوصية في الفترة التَّحضيرية التي تسبق العام الدِّراسي وأثناءه، أو من النَّاحية النَّفسية المُتمثِّلة بالرُّعب والخوف من الأسئلة من جانب، ومن النَّتائج من جانب ثانٍ، ومن المفاضلة الجامعية من جانبٍ ثالث.
هذا الخوف أمسى مُسيطراً على حياة كل فرد من أفراد العائلة التي لديها طالب في إحدى الشَّهادتين ولاسيما الشَّهادة الثانوية، لما لها من أهمية في تقرير مصير مستقبل هذا الطالب. ولا يمكننا أن نُصادر على الأهل أو على الطَّالب نفسه هذا الخوف، فهو حقٌّ مشروع، إنما الظَّاهرة التي انتشرت من سنوات ما قبل الحرب وتمتد شيئاً فشيئاً حتى تحوَّلت لشكلٍ من أشكال الإزعاج، هي ظاهرة ذهاب الأهل مع أبنائهم إلى المراكز الامتحانية، في أيام الامتحان، وانتظارهم أمام أبوابها وفي الشَّوارع طيلة فترة الامتحان حتى يخرج أبناءهم بعد كل مادة.
هذا السُّلوك المنطلق من العاطفة أولاً ومن غريزة القطيع ثانياً، يتضمَّن من العواقب ما لا يدركها بعض الأهل حتى اليوم، ولا تقتصر عليهم أنفسهم أو على أبنائهم فحسب، وإنما تنعكس أيضاً على كل من له علاقة بالعملية الامتحانية من مراقبين أو مديري مراكز أو حتى مندوبي الوزارة الذين يقومون بمهمة الاطمئنان على سير الامتحانات.
فعلى صعيد الطَّالب نفسه:
_ يرافقه أثناء تقديمه للامتحان شعور بالذنب والتَّقصير الدَّائم تجاه أهله وتعبهم معه.
_ خوفه من عدم قدرته على الإجابة بالشَّكل المطلوب والمرجو، فتكون ردّة فعل أهله أمام الغرباء ربما سلبية ما يؤثّر على ثقته بنفسه.
_ إحساسه المتواصل بأن أهله لا يثقون به، سواء في مسلكياته العامة في الطَّريق ذهاباً وإياباً، أو في معلوماته التي درسها وسيُمتحن بها، وهذا ينعكس على الطالب ذاته، فإما أن يشكّل له عاملاً مُحفّزاً على العمل المتزايد لدرجة الإنهاك، أو أن ينعكس سلباً، عليه فلسان حاله يقول: (مادام أهلي لا يثقون بي، فإنني لن أنجح أو لن أجمع ما أريد من العلامات)، ولربما يكون دافعاً سلبياً بأن يشاكس أهله فلا يدرس من الأساس ولا يقدم امتحاناته أبداً، بل قد يخدعهم بوجوده في مركز الامتحانات وبعد خروجه بأنه أدى واجبه، بينما هو في الواقع لم يفعل شيئاً ولربما قدَّم أوراقه فارغةً من أيّة إجابة.. والأمثلة على هذا حيّة وواقعية.
وعلى صعيد الأهل:
_ إضاعة وقتهم على قارعة الطَّريق هنا وهناك، هذا الوقت الذي من المُفترض أن يكونوا فيه إمّا في العمل، أو في البيت يهيئونه لعودة ابنهم وراحته، أو لمتابعة بقية أفراد العائلة الذين ينتظرون مع أهلهم خروج الأخ أو الأخت من الامتحان.. وكم لهذا من مضار نفسية عليهم، فبدل أن يكونوا في بيوتهم يلقون العناية والراحة تراهم يتوزعون في الشَّوارع التي لها ما لها من طرق لتعليمهم وإكسابهم ما هو غير مرغوب به.
_ الشَّعور المرافق للأهل من أول يوم في العام الدراسي بعدم الثِّقة بإمكانيات أبنائهم وقدراتهم، ما يزيد من قلقهم واضطرابهم وتعبهم.
_ بات شهر الامتحانات شهر الإجازات في الدولة، فبدلاً من أن يأخذ الأهل إجازاتهم للرَّاحة وقضاء أكبر وقت مع عوائلهم، فإنهم يأخذونها في هذا الشَّهر ليقضوها في الطُّرقات كالمشرَّدين.
_ يُعدُّ هذا المكان مجالاً لتكوين العلاقات الآنية بين الأهل، وللثَّرثرة الفارغة من أيّ مضمون بهدف إضاعة الوقت، وفي بعض الأحيان يُشكّل مصدراً للخلافات والمشاكل التي يضطّر رجال الشُّرطة أحياناً للتدخّل لحلها.
أما ما يتعلق بمن يقومون بمهامهم كمراقبين وغيرهم:
_ التَّعرّض لطلبات الأهل بالاهتمام بأبنائهم واعتبارهم كأنهم أولادهم، والتي لا تقتصر على الطلب الشفهي أو الكلام، بل تتحوّل إلى ضغط نفسي، خصوصاً إن كان من ضمن الطلاب جار أو أحد المعارف، فيقع المراقب بين نارين: الحرج مع الناس ورغبته بأداء واجبه كما هو مطلوب منه، ومن ثم حماية نفسه من التَّعرّض لأيّ خطرٍ يمسُّ عمله في ظلّ التَّشديدات والعقوبات التي تُعلنها الوزارة في كل عام بحق كل من تعتبره مُقصِّراً بعمله.
_ وصلت الأمور في بعض السَّنوات السَّابقة إلى التَّعرّض للعديد من المراقبين وإهانتهم، ممّا انعكس بشكلٍ سلبي على الطُّلاب والامتحانات عموماً، فحين يتعرّض المدرس للإهانة من البديهي أن يُصبح غير مُبالٍ بمن نجح أو رسب، فالمهم أن يحفظ ما بقي له من ماء الوجه، هذا إن بقي منه شيء. كما دُفع رشا ومبالغ مالية طائلة للبعض الآخر كي يساعدوا الطلاب أثناء الامتحانات ممّا ألحق الضَّرر بالطلاب الآخرين الذين لم يدفعوا.
_ أصبحت عملية مراقبة الامتحانات من أصعب المهام، سواء على المراقبين أو على رؤساء المراكز الامتحانية، نظراً لحجم الضغط الذي يتعرّضون له من الطلاب وأهاليهم من جهة أو من المسؤولين في الوزارة ومديرياتها، ما يدفع الجميع بلا استثناء لمحاولة إعفاء أنفسهم من هذا العبء، والمحظوظ هو من يتمكّن من ذلك.
في هذه الفترة التي لا تزال فترة امتحانات، جميعنا نتمنى لطلابنا والذين ربما يكون أبناؤنا من ضمنهم النجاح والحصول على أعلى الدَّرجات، فلا فرحة تُضاهي فرحة النَّجاح بعد التَّعب الذي نعيشه جميعنا خلال العام كأهل أو مدرسين أو طلاب. ولهذا فإننا نُناشد بأن تترافق فترة الامتحانات مع محاولات بثِّ الهدوء النَّفسي قدر المُستطاع، وتغليب العقل على العواطف في مثل هذه الأوقات ما ينعكس بصورة إيجابية على الأهل وعلاقتهم بأبنائهم من جانب، وعلى تحصيل الأبناء العلمي من جانبٍ آخر.. وهذا أقلُّ ما يمكن أن يكون في فترةٍ عنوانها التَّوتر والقلق والخوف.