عن الدخل الخافت للمواطن الصامت

حسين خليفة:

يكاد القول الدارج من نصوص القرآن (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) أن يُصبح في هذه الأيام (المال والبنوك)، فالبنون لم يعودوا أكثر من أعباء بالنسبة لمهدودي الدخل، وكل مولودٍ فمٌ جديد مفتوح لابتلاع جزء من الدخل الخافت للمواطن الصامت.

(الغنى غنى النفس) هذا ما كان يقوله لنا السلف الصالح الذي كان يشرب من نبع القرية، أو حتى المدينة، ويأكل من خبز التنور المجبول بماء النبع، ومن حنطة زرعوها وحمّلوها على دوابهم إلى الطاحونة القريبة ليطحنوها، ومن بيض الدجاج اشتروا ما تيسّر من بضائع عند البقال، حتى كادت حاجتهم إلى العملة لا تتعدى حالات السفر الاضطراري أو العلاج أو غيره من الحاجات المحدودة.

المال أصبح منذ زمن طويل القيمة العليا في مجتمع يلهث خلف الاستهلاك، هي ليست إدانة أو حكم قيمة، بل توصيف لواقع يكتسح حياتنا وأرواحنا ولا يترك لك متسعاً لالتقاط نفس.

ليس أمام أقدس الأنبياء في هذا العصر سوى أن يتركوا رعاياهم ويلحقوا رزقهم، حتى اللصوص الصغار يلهثون خلف تحقيق حاجاتهم وحاجات أولادهم التي لا تنتهي، ويبقى كبار اللصوص استثناءً فهم معصومون عن الحاجة، لا يعرفون من أسعار السوق والحاجات سوى سعر الدولار.

المال… هو الحاكم الأوحد في عالم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومايكروسوفت وكارتلات الصناعات الثقيلة والأغذية والألبسة والأدوية والإعلام وغيرها.

في زمن الموبايل والإنترنت والقرية الكونية الصغيرة حيث التسوّق الإلكتروني والصفقات التي تجري عبر البحار، وحتى العلاقات الإنسانية أضحت أكثر ارتباطاً بالمال، فتجد أقرب الناس إليك ممّن تربطك بهم علاقة عمل لا يلبث أن يدير ظهره لك ولكل الماضي الذي كان بينكما ما إن تنتهي علاقة العمل، وتفعل أنت الشيء ذاته، والكل معذور، إنه وحش المال يلتهم الوقت والروح والنبض. أيضاً، في العلاقات العائلية يدخل المال فيهدم ما تبقى منها، يدبّر الأولاد المكائد لأب جمع لهم ما جمع، أو لأم ربّتهم (كل شبر بندر)، حتى يستعجلوا باقتناص الميراث وزجّ المال في شرايين أعمالهم المستعجلة.

هل هي نهاية العالم؟ هل هي نهاية التاريخ؟

لا جواب جازماً على أيّ سؤال، فالاحتمالات تتكاثر كما كثرة متطلبات الحياة.

كُنّا صغاراً ننتظر عودة الأب من سفرته ليكون معه لكل ولد هدية بسيطة، نعلاً بلاستيكيا وغالباً ما تكون (شحاطة)_ أجلّكم الله_ أو قطعة لباس شعبي رخيص، أو علبة حلويات لا تعرف الكاجو والفستق الحلبي كما كُنّا لا نعرفها سمعاً أو مشاهدة، فكيف بالتذوق والأكل!

الآن ما إن يتعلّم الطفل النطق حتى تصبح متطلباته غير منتهية، بل إنها لا تنتهي منذ الولادة، وكله لا يأتي إلاّ بالمال، والمال بعيد محجوز في خزائن الأثرياء واللصوص، أو الأثرياء اللصوص.

الآن في سورية لا يكفي دخل أي مواطن من (العاملين بسواعدهم أو أدمغتهم) الحاجات الأساسية والضرورية لاستمرار الحياة فحسب، لعائلة صغيرة سوى لأيام معدودات لا تزيد عن الأسبوع، وعليه أن (يدبّر رأسه) لبقية الشهر، هذه الـ(يدبر رأسه) هي أكبر جريمة في تاريخ سورية كرّسها المنطق السخيف بأن الناس يجدون حلولاً لمعيشتهم مهما تضاءلت دخولهم، وهو أكبر مولّد للفساد العام والعميم الذي أصبح ثقافة مجتمع بعد أن كان فعلةً شاذّة وشنعاء ومنبوذة اجتماعياً، إنه زمن المواطن الصامت رغم الدخل الخافت، زمن الكاظمين الغيظ، لكن إلى حين.

في الماضي السحيق، زمن المجتمع العبودي، كان ثمّة عبيد وأسياد يشترونهم ويبيعونهم كأيّ سلعة، يجلدونهم بالسياط والعصي، يحددون أعمارهم ومصائرهم.

الآن يُستعاد زمن العبودية، لكنها عبودية مُغلّفة بالحرير والسيلوفان، عبودية لورقة ينحني أمامها العالم.

تستعبدنا اليوم ورقة نقدية فنلاحقها ليل نهار ولا نلحقها، نحن عبيد المال وأساطين المال.

إن الزمن الحلزوني يعود إلى دورته الأولى، لكن بلا سياط ولا جلّادين، سوى سياط الحاجة وجلاد الوقت.

العدد 1104 - 24/4/2024