مالك لا يجعلك إنساناً
إيناس ونوس:
(الغنى غنى النفس والروح وليس الغنى المادي) هذه المقولة التي كانت ترددها أمي على مسامعنا منذ أن كُنّا أطفالاً صغاراً، وكبرنا على أساس أن الشخصية الحقيقية لا تُقاس بما يمتلك الإنسان من أموال وأطيان وممتلكات مادية، وإنما بما يمتلكه من وعي وثقافة وحضور اجتماعي. مرّت الأيام ودخلنا الحياة العملية وبدأنا نشعر بضرورة المال كوسيلة لتلبية الحاجات المعيشية، وأهميته في لحظات افتقاده، وكم هو صعب الحصول على أبسط مقومات المعيشة في ظلّ الغلاء الفاحش والوضع الاقتصادي المرير في البلاد.
فحين يمرض ابنك وأنت لا تملك ثمن الدواء والعلاج، وحين تتجمّد عائلتك أمام ناظريك من البرد وأنت غير قادرٍ على تأمين مستلزمات الدفء، وعندما تبحث عن مبررات لأطفالك لأنك لا تملك ثمن الخبز والحليب، وعندما تعجز عن دفع إيجار البيت، وعندما، وعندما…الخ. تبحث عن الثقافة الكامنة في شخصك وتتساءل: كم تساوي هذه الثقافة أمام كل ما تعيشه؟!
وتعود بعد لحظات حين يجابهك طفلك أو صديقك بأيّ موقفٍ أو استفسار يتعلّق بالأخلاق والتربية وبناء الشخصية، لتربط الأمور كما ربطها أهلك وتقول إن حاجتك المادية مهما بلغت من سوء لن تدفعك للتّخلي عمّا تربيت عليه، وأنك على أتم استعداد للعمل المُضضني لسدّ حاجاتك مقابل البقاء محافظاً على معتقداتك وأفكارك ومبادئك.
بالتأكيد، إن المال أحد أهم أساسيات الحياة، لما له من ضرورة في تسيير الأمور العملية والحياتية، إلاّ أنه لا يُشكّل شخصية الإنسان ولا يمكن له أن يكون معياراً لمقياس هذه الشخصية، فما يكسبه الإنسان من معارف وتعليم وثقافة وقيم لا ينمحي مع مرور الزمن، بل على العكس من الممكن أن يزداد ويزيد من وعي الشخص لذاته ولحياته ولمحيطه أكثر بكثير، وبما لا يقارن مع النواحي المادية التي تخضع لظروف الزمن المُتغيّرة والمُتقلّبة. والأمثلة لا تُحصى عمّن كانوا يتلاعبون بالأموال وفجأة تدهورت أحوالهم فخسروا كل شيء دفعةً واحدة.
نعم، إن ما تعلمناه من أهلنا صحيح مئة بالمئة، ولا يشوبه أيُّ شكّ، ولا ينفيه السعي لامتلاك المال بغية تسهيل تسيير شؤون الحياة، إلاّ أن التوازن في النظر إلى الأمور والتعامل معها هو الحل الأمثل، فكلٌ منّا يطمح لأن يعيش حياةً مريحة اقتصادياً لا تعتريها الحاجة، وهذا حقٌ طبيعي وبديهي من المفترض أن يحصل عليه ليعمل على تأسيس شخصيته وبنائها كما يرغب ويريد، إلاّ أن ما هو غير طبيعي أن يكون اكتساب المال على حساب القيم والكرامة وخسارتهما، أو أن تتمّ المُعايرة كما يحدث اليوم بأن قيمة الإنسان تتحدد بما يملكه من أموال وعقاراتٍ وأطيان، وتبتعد كل البعد عن أهم خصال الإنسان الحقيقية كالقيم التربوية والاجتماعية والأخلاقية …إلخ.