أزمة فنزويلا… ما العمل؟

لويس روبايو:

أعادت أزمة فنزويلا الأخيرة فتح نقاش سياسي واقتصادي واسع في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم. هل كان هوغو تشافيز محقّاً في سياساته؟ ماذا عن تدخّل واشنطن المباشر في الأزمة لاسترداد ما خسرته اقتصادياً وسياسياً في أمريكا اللاتينية؟ ما هي الحلول المُتاحة أمام فنزويلا اليوم؟ وكيف يجب أن تتصرّف الدول الأخرى في مواجهة الارتهان للمؤسّسات الممسِكة بالاقتصاد العالمي؟

مايكل هادسن (أحد أبرز الباحثين الاقتصاديين الأمريكيين)، شرح بعض تلك النقاط في مقابلة مع موقع (ذي أونز ريفيو):

 

-هل يمكنك تلخيص حالة الاقتصاد الفنزويليّ عند وصول هوغو تشافيز إلى السلطة؟

+ كانت فنزويلا، قبل تشافيز، معتمدة على النفط، وتصرف دخلها من التصدير بشكل كبير على استيراد الطعام وضروريّات أخرى كان يمكنها إنتاجها محليّاً. كان تبادلها التجاريّ يتمّ على نحو واسع مع الولايات المتحدة. لذلك، ورغم ثروتها النفطيّة، راكمت ديناً خارجيّاً. منذ البداية، خشيت شركات البترول الأمريكيّة من أن تستخدم فنزويلا في يوم ما موارد نفطها لصالح كامل شعبها، عوض السماح لصناعة البترول الأمريكيّة وأرستقراطيّتها الكمبرادوريّة المحليّة بابتلاع ثروتها. لذلك، جعلت صناعة البترول، بدعم دبلوماسيّ أمريكي، فنزويلا رهينةً لها بطريقتين.

أولاً، لم تبنِ مصافي النفط في فنزويلا، بل في ترينيداد وفي دول ساحل الخليج الأمريكية الجنوبية. سمح ذلك لشركات البترول الأمريكية أو الحكومة الأمريكية أن تترك فنزويلا بلا أدوات (تسيير منفرد)، واتّباع سياسة مستقلّة خاصّة بنفطها لأنّها تحتاج إلى المصافي. لا معنى لأن تملك احتياطات نفطيّة إن كنت عاجزاً عن تكريرها حتى تصبح قابلة للاستخدام.

ثانياً، جرى حثّ مسؤولي البنك المركزي الفنزويلي على رهن الاحتياطات النفطيّة وجميع أصول قطاع النفط التابع للدولة (بما في ذلك شركة سيتغو) كضمان للدين الخارجي. يعني ذلك أنه في حال تخلّفت فنزويلا (أو أُجبرت على التخلّف من طرف المصارف الأمريكية من خلال رفض تسليم دفوعات دينها الخارجيّ في مواعيدها)، يصير حاملو الأسهم وكبار شركات البترول الأمريكية مخوّلين قانونيّاً للاستحواذ على الأصول النفطيّة لفنزويلا.

هذه السياسات المنحازة للولايات المتحدة جعلت فنزويلا أوليغارشيّة أمريكية – لاتينية تشهد استقطاباً نموذجيّاً. رغم كونها نظريّاً ثريّة بموارد النفط، تركّزت ثروتها في أيدي الأوليغارشيّة الموالية للولايات المتحدة التي أوكلت نموّها المحليّ للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. أُقصِي السكان الأصليون، خاصّة الأقليّة العرقيّة الريفيّة وكذلك الطبقات الدنيا المدينيّة، من تقاسم ثروة البلاد النفطيّة. رفض الأوليغارشيّة المتغطرس لتقاسم الثروة، أو حتى جعل فنزويلا مكتفيّة ذاتيّاً في السلع الأساسيّة، جعل انتخاب هوغو تشافيز نتيجة طبيعيّة.

-هل يمكنك تلخيص الإصلاحات والتغيّيرات التي قام بها تشافيز؟ ما الذي أصاب فيه، وفي ماذا أخطأ؟

+ سعى تشافيز لإعادة تركيز اقتصاد مختلط، مستخدماً موارد حكومته، أساساً من النفط، لتطوير بنية تحتيّة وإنفاق محليّ على الرعاية الصحيّة، التعليم، التوظيف لرفع معايير عيش وإنتاجيّة جمهور ناخبيه. ما عجز عن تنفيذه هو القضاء على الاختلاس والعمولات على حساب موارد القطاع النفطيّ، كما عجز عن كبح هروب رساميل الأوليغارشيّة، التي نقلت ثروتها إلى الخارج، وهربت هي نفسها. لم يكن ذلك خاطئاً، إذ إن تغيير اقتصاد ممزّق يتطلّب وقتاً طويلاً، بينما تستخدم الولايات المتحدة عقوبات وخدعاً قذرة لإيقاف مسار التغيير.

-في رأيك ما هي أسباب الأزمة الاقتصاديّة الحاليّة في فنزويلا؟ هل تعود أساساً إلى أخطاء تشافيز ومادورو، أم أنّ السبب الرئيسيّ هو التخريب والتدمير والعقوبات الأمريكيّة؟

+ لم يكن ممكناً أن يتّبع تشافيز ومادورو سياسة لصالح فنزويلا، تطمح لتحقيق استقلال اقتصاديّ، دون التسبّب في إغضاب الولايات المتحدة الأمريكيّة وفي تخريبٍ وعقوباتٍ من قِبلها. ما زالت السياسة الخارجيّة الأمريكيّة متركزة على النفط بقدر ما كانت عليه زمن غزو العراق في ظلّ نظام ديك تشيني. تقوم سياسة أمريكا على معاملة فنزويلا على أنها امتداد للاقتصاد الأمريكي، أي أنّ لفنزويلا فائضاً تجاريّاً من النفط تنفقه في الولايات المتحدة أو تنقل مدخراتها إلى البنوك الأمريكية.

بفرض عقوبات تمنع فنزويلا من النفاذ إلى ودائعها في المصارف الأمريكية وأصولها في شركتها (سيتغو) المملوكة من الدولة، تجعل الولايات المتحدة من المستحيل على فنزويلا دفع دينها الخارجي، ما يجبرها على التخلّف عن الدفع، الأمر الذي يأمل الدبلوماسيّون الأمريكيّون استخدامه كذريعة لارتهان موارد فنزويلا النفطيّة وحجز أصولها الخارجية تماماً كما سعى (صندوق هدج للتحوّط)، المملوك من بول سينغر، أن يفعل بالأصول الخارجيّة للأرجنتين. وكما سعت السياسة الخارجية الأمريكية زمن هنري كيسنجر أن تجعل اقتصاد التشيلي (يصرخ)، تتّبع الولايات المتحدة النهج نفسه ضدّ فنزويلا. إنّها تستخدم فنزويلا كـ(نموذج) لتحذير الدول الأخرى بألّا تعمل لصالحها الخاصّ بأيّ طريقة قد تمنع امتصاص المستثمرين الأمريكيّين لفائضها الاقتصادي.

-في رأيك ما الذي على مادورو فعله، في حال بقائه في السلطة وعدم خلعه من طرف أمريكا، لإنقاذ الاقتصاد الفنزويلي؟

+ لا أرى أن هناك شيئاً بالإمكان فعله ولم يفعله الرئيس مادورو. في أفضل الأحوال، بإمكانه طلب دعم خارجي، والإظهار للعالم الحاجة إلى نظام اقتصادي ومالي دولي بديل. ولقد انطلق بالفعل في القيام بذلك، محاولاً استرداد ذهب فنزويلا من (مصرف إنكلترا) و(الاحتياطيّ الفيدرالي). الوضع بصدد التحوّل إلى (حرب غير متوازنة)، تهدّد بنزع قدسية معيارية الدولار في المالية العالمية. إذ إن رفض إنكلترا والولايات المتحدة منح حكومة منتخبة السيطرة على أصولها الخارجيّة يُظهر للعالم أجمع أنّ الدبلوماسيين والمحاكم الأمريكية فقط بمقدورها التحكّم، وستتحكّم، في الدول الأجنبيّة باعتبارها امتداداً للقومية الأمريكية.

إذاً، ثمن الهجمة الاقتصادية الأمريكية على فنزويلا هو كسر النظام المالي الدولي. تُظهر خطوة مادورو الدفاعية للدول الأخرى الحاجة إلى حماية نفسها من التحوّل إلى (فنزويلا أخرى) من خلال إيجاد ملاذ آمن ووسيط جديد لذهبها واحتياطاتها من النقد الأجنبي وتمويلاتها للدين الخارجي بعيداً عن مناطق الدولار والجنيه الإسترليني واليورو.

-أبقت فنزويلا الكثير من ذهبها في المملكة المتحدة وأموالها في الولايات المتحدة. كيف أمكن لتشافيز ومادورو الثقة بهاتين الدولتين، أم لم يكن أمامه خيار آخر؟ هل توجد بدائل صالحة لنيويورك ولندن أم أنهما لا تزالان (اللاعب الوحيد في المدينة) بالنسبة إلى مصارف الدول المركزية؟

+ لم توجد قطّ ثقة حقيقيّة في (مصرف إنكلترا) أو (الاحتياطيّ الفيدراليّ)، لكن لم يكن أيضاً وارداً في الأذهان أن يرفض أي منهما السماح لمودع رسمي بأن يسحب ذهبه. الشعار التقليدي هو (ثق لكن تثبّت)، لكن عدم رغبة (أو عدم قدرة) (مصرف إنكلترا) على التثبّت يعني أنّ ما لم يكن وارداً صار حقيقة.

رفض إنكلترا والولايات المتحدة الدفع لفنزويلا يعني للبلدان الأخرى أنّه يمكن رهن احتياطات الذهب الرسمية الأجنبية لسياسة الولايات المتحدة الخارجية، وحتى لأحكام المحاكم الأمريكية بتسليم الذهب إلى دائنين أجانب أو إلى أي طرف يرفع قضية ضدّ تلك البلدان وفق القانون الأمريكي. هذا الارتهان يجعل من الضروريّ على البلدان الأخرى تطوير بديل صالح، خاصّة أنّ العالم بصدد التخلّي عن الدولار وبقاء معيار صرف الذهب الطريق الوحيد لكبح عجز توازن المدفوعات الأمريكية أو أيّ بلد آخر يمثّل تهديداً عسكريّاً. الحفاظ على إمبراطوريّة عسكريّة أمر مكلف جداً، والذهب كابح (سلميّ) لعجز المدفوعات الذي يتسبب به الإنفاق العسكريّ.

-ما الذي يمكن لدول أمريكية لاتينية أخرى مثل بوليفيا، نيكاراغوا، كوبا، وربما الأوروغواي والمكسيك، القيام به لمساعدة فنزويلا؟

+ أفضل ما يمكن أن تقوم به دول الجوار هو الانخراط في خلق آلية دعم للتخلي عن الدولار، ومؤسسة دوليّة تشرف على شطب الديون التي تتجاوز قدرة الدول على الدفع دون فرض تقشّف ومن ثمّ تدمير اقتصاداتها. يجب كذلك إيجاد بديل لـ(البنك الدولي) يقدّم قروضاً بالعملات المحليّة، وذلك قبل كلّ شيء لدعم الاستثمار في الإنتاج المحليّ للطعام لحماية الاقتصاد في وجه العقوبات الخارجية حول الطعام، وهو مرادف للحصار العسكريّ عبر فرض الاستسلام من خلال خلق شروط مجاعة. هذا (البنك الدولي) للدفع الاقتصاديّ سيضع تنمية التعويل على الذات لأعضائه على رأس أولوياته، عوض دعم التنافسيّة في التصدير، بينما يغرق المقترضون في الدين الخارجيّ الذي يجعلهم عرضة للابتزاز الاقتصاديّ كالذي تعيشه فنزويلا.

باعتبارها بلداً كاثوليكيّاً، قد تطلب فنزويلا أيضاً دعماً بابوياً لشطب الديون ومؤسسة دولية للإشراف على إمكانية الدفع للدول الدائنة دون فرض تقشّف، هجرة، تهجير، وخصخصة للقطاع العام. نحتاج إلى مبدأين دوليّين، أولاً، يجب أن لا تُجبر أيّ دولة على دفع دين خارجيّ بعملة (مثل الدولار وتوابعه) يعمل نظامها المصرفيّ على منع الدفوعات.

ثانياً، يجب أن لا تُجبر أيّ دولة على دفع دين خارجي على حساب خسارة استقلاليتها كدولة: لها الحقّ في تحديد سياستها الخارجية، في فرض ضرائب وخلق عملتها، وفي أن تكون حرّة في خصخصة أصولها العمومية لدفع الدائنين الخارجيين. أيّ دين على هذه الشاكلة هو (قرض كريه) يعكس لا مسؤولية الدائن أو أسوأ انتزاع أصول خبيث عبر حجز الرهن، وهو ما مثّل الهدف الأصليّ من تسليم القرض.

(الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024