البنك المركزي ونبع الحنان

غزل حسين المصطفى: 

الصورة من المشهد السوري الأخير (أزمة الغاز) من الساحة العامة في جديدة عرطوز.. الناس كما يوم الحشر محتشدون وصوت ضجيج الجرار يعلو، كل فرد يحتضن أسطوانته بحرارة المشتاق، يرى فيها الدنيا، ولأجلها كانت الحوارات تنقلب إلى شجار بين المجموعات عند من كانت حالة الحب أكبر، من يحتاجها أكثر، والكل يعرض مأساته.

حقيقةً، لم أستطع تحمّل المشهد إلاّ لدقائق، كان الغضب يحرق أعصابي لمجموعة معطيات لا داعي لذكرها فهي معروفة واضحة، الكلُّ قد جرّبها في أيام حربنا وأزماتنا.

المهم، ركبت الحافلة إلى وجهتي والمشهد مازال يلعب بأوتاري، يعزف أنغاماً من نار، ورغم شرودي بالصورة لم تمتنع أذناي عن التقاط جملة ذلك الشاب حين سأله صديقه: لماذا تركت والدك وحده يصارع؟ لم لم تنتظر معه وتساعده في الحصول على أسطوانته؟

قهقه الابن ضاحكاً وهو يغلغل أصابعه بين خصل شعره الطويل وقال: (مين الأب أنا أو هو؟ يصطفل ما حدا جبرو يتزوج.. لو بدي أتحمل مسؤولية كنت تزوجت)!

كل التفاصيل المُستفزّة في مشهد الغاز كانت لا تضاهي وقاحة هذا الشاب وانعدام إحساسه بالمسؤولية!

قد يقول قائل ربما يمازح صديقه بجملة عفوية- أقول ربما- لكن هيئته كانت تدلُّ على تمرد يعيشه، وحتى بقية حديثه كانت استفزازية عن الأهل ومدى قرفه من الحياة التي يعيشها، فلا الوظيفة الحكومية لوالده تعجبه، ولا مدرسته، لأن (س) من أصدقائه يسافر مرتين لقضاء عطلته خارج الوطن، ووالده غير قادر إلاّ على تأمين لقمة العيش!

الفكرة أنه كان ينكر كلّ النكران مدى صعوبة تأمين لقمة العيش في هذا الزمن، يخال أنه جني ثمار مباحة، ولا يعلم شيئاً عن حرب والده الضروس لتحصيل رغيف الخبز!

لماذا يعيش الجيل الحالي هذه الحالة؟

كانت الأسئلة تُلاحقني لأجد للحالة تبرير، وحديث والدي عن صيف قضاه يعمل ليؤمّن مستلزماته المدرسية يدقُّ أعتابي، فقد برر سبب التحاقه بعمل صيفي وهو طالب (إن لم نعمل كلنا معاً في سبيل تأمين المستلزمات أنا وإخوتي كيف سنكمل حياتنا فنحن كنّا كُثُراً؟)!

ما هي التعويذة التي قلبت ميزان التفكير وجعلت كل ما يقدمه الأهل عبارة عن واجب وطبيعي، ومهما فعلوا فحالة الكمال لن يصلوا إليها؟

برأيي، قد يكون دلال الأهل وإعفاء الأبناء من مشاركتهم المسؤوليات كان له دور في انعدام المسؤولية وعدم تقدير الأبناء للمتاح، كما تلعب الظروف المحيطة بنا دوراً هاماً في ذلك، حيث تغيّرت المفاهيم، لا الحب بقي حبّاً، ولا العائلة بقيت عائلة! ومن المصطلحات المستخدمة عن الأب (البنك المركزي أو وزير المالية) والأم إمّا أن تكون شريكة في الحالة أو تقتصر على كونها (نبع الحنان) ودورها يكمن في اللعب على أوتار جيب الأب أو قراراته.

المشكلة هي مشكلة جيل كامل، قِلِّة منهم من يعي الصواب ويفهم الحالة فيُقدّر الظروف.

العدد 1105 - 01/5/2024