ازدواجية حتى إشعار آخر

حسين خليفة:

منذ أيام انتشر فيديو مُصوّر في شوارع مدينة سورية، هو عبارة عن تحقيق صحفي يستفتي آراء الشباب والشّابات في موضوع المساكنة، كظاهرة أو فكرة.

المفاجأة أن كثيراً من الشباب والشابات الذين استفتوا في الموضوع أيدوا الفكرة ووجدوها حلاً لمشكلات العزوف عن الزواج لدى الجنسين، وما يترتّب على الزواج من تبعات ومسؤوليات، مع ما تحمله المساكنة من حرية في العلاقة وإنهائها عندما يُحسّ أحد الشريكين بمجرد الملل من الشريك مثلاً، وبعضهم وجدها مقبولة لولا موقف الأهل والمجتمع.

ومع علمنا بأن أهواء وميول القائمين على إنجاز المادة الصحفية تلعب دوراً حاسماً في إبراز ما يناسبهم وتخطّي ما لا يناسب أهدافهم وتوجهاتهم أو توجهات الجهة التي تكلّفهم بإنجاز العمل، فإن التحقيق فيه الكثير من الحقيقة، الشاب (والشابة) في سنوات الشباب المبكّرة على الأقل لا يجد غضاضة في أن تأتي فتاة يحبها ويرغب في العيش معها وتقبل بأن تساكنه دون أي عقد أو أوراق رسمية، ليذهب كل منهما في سبيله حالما تنتهي رغبتهما في العيش المشترك.

هو شيء أقرب إلى الحلم بالنسبة لشابٍّ شرقيّ يحتاج إلى الكثير من (أوراق الاعتماد) ليبدأ رحلة الحياة مع الفتاة التي يحبها أو يرغب في الاقتران بها.

الفكرة التي أود قولها بعد هذه المقدمة الطويلة هي أنك لو (ولو تفتح عمل الشيطان) سألت هؤلاء الشباب والشّابات أنفسهم بعد عشرين عاماً أو أكثر، وتكون الحياة والتجربة قد حفرت أخاديدها في أرواحهم وعقولهم، الأسئلة نفسها، ستختلف الإجابات جذرياً، فمعظمهم يكون قد (استوى) في تجربة زواج أو أكثر وفي عمل أو أكثر، وتبلورت لديه مفاهيم جديدة لا علاقة لها بروحه المتمرّدة حين كان في العشرينيات من عمره، وأصبح مطواعاً للأعراف والشرائع والقوانين.

هل هذه ازدواجية؟

لا أوافق على هذا التشخيص، فكثير منّا يكون على قناعة كاملة بفكرٍ سياسي أو إيديولوجيا معيّنة في مراحل الشباب الأولى، ثم لا يلبث أن يحذفها من حياته في مراحل عمرية متقدمة نسبياً ليتفرّغ لتأمين سبل عيشه، أو ينتقل أحياناً إلى أفكار وإيديولوجيا معاكسة تماماً لما كان يتبنّاه ويقاتل من أجله، وهي حالات طبيعية يعرفها ويشهدها كلٌّ منّا، مردّها تغيّر المعطيات والشروط التي جعلت الفرد يتبنى وجهة نظر ما، أو انقشاع غمامات كانت تحول دون الرؤية الواضحة للأمور، وهذه من طبيعة الأشياء.

الازدواجية هي أن تتبنى موقفين مختلفين أو متناقضين من الظاهرة نفسها في الزمن نفسه، وهي موجودة أيضاً، وبالعودة إلى مثال التحقيق الصحفي أعود إلى استعمال (لو) الملعونة، فلو تعرّض أي واحد من هؤلاء الشباب لحالة مشابهة مع أخته أو أي أنثى تمتُّ له بصلة قرابة تعيش مساكنة مع شاب، أو تُفكّر مجرّد التفكير في ذلك، لن يكون ردّ فعله هو نفسه الذي يجاهر به أمام الكاميرا، أو ربما كان يعيش بحالة مساكنة مع أنثى أخرى، بل سيمارس كل عنجهية الذكر وعسفه في منع الفتاة من ممارسة ما يراه هو طبيعياً ولا مشكلة فيها أمام الكاميرا، أقصد ظاهرة المساكنة.

فما بالك به وقد تجاوز مرحلة الشباب بكل جموحها وانطلاقها، وكوّن عائلة، وأخذته هموم الحياة، وأصبح كائناً مدجّناً، إن صحّ التعبير، حين تعترضه مشكلة إقدام أنثى تخصّه على خوض هذه التجربة؟

إن قوّة الأعراف والعادات والدين والمجتمع قوة عاتية لا يمكن لأفكار جديدة وخارجة عن المألوف أن تخترق هذا الطوق الذي تكوَّن لقرون طوال حول عقول الناس وأرواحهم، إلاّ بنشوء قوى مجتمعية وثقافية متجذّرة وقريبة من الناس، تبدأ في رحلة شاقّة لتكوين وعي مجتمعي جديد يتقبّل الأفكار الجديدة، ويؤمن بخيارات الفرد بما لا يخلق اضطرابات اجتماعية وسياسية.

وهذه لا يمكن أن تنشأ إلاّ في مجتمعات ديمقراطية منفتحة يكون النشاط السياسي والاجتماعي والأهلي حرّاً دون وصايات وتدخلات من أجهزة وهيئات وجهات يعشش فيها القديم وحرّاس الهياكل المتداعية.

نعود إلى المربع الأول، كما يردد محلل سياسي سوري فاشل، أيّ حل يبدأ بالديمقراطية والحرية، ودونهما نكون كمن يحفر في الصخر بأصابعه، فتجرح أصابعه ويبقى الصخر، وكما أن أي إصلاح اقتصادي وأي مكافحة للفساد وأي إصلاح مجتمعي لا يمكن أن ينجح دون بيئة ديمقراطية شفّافة، فلن نتحرر من حالات الازدواجية لدى شبّاننا وشابّاتنا إلاّ بإتاحة الفرص للأفكار الجديدة أن تخرج إلى الضوء وتُناقش دون أيّ إلغاء أو تكفير أو تخوين، وللهواء النظيف أن يطرد الهواء الفاسد.

العدد 1104 - 24/4/2024