انفتاح آخر..

بشار المنيّر:

يتساءل المواطن السوري عن الأسباب التي جعلت الرفاه، بل الاكتفاء، محرماً عليه بعد عقود من نيل البلاد استقلالها الوطني؟ عقود تخللتها وعود، وخطط من الدولة، وصبر، وجهد، وبذل، وتضحية من جانب المواطن.

في بداية الألفية الثالثة، لاح أمل جديد ببدء مرحلة نوعية جديدة في حياة الوطن وأبناء الشعب السوري بعد شعارات التعددية السياسية والاقتصادية، وهكذا بدأ عهد جديد.. انفتاحي جهدت الحكومات المتعاقبة خلاله على إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وفق اقتصاد السوق، وفتحت الأبواب أمام مبادرات القطاع الخاص والمستثمرين المحليين والأجانب، ومهدت لذلك بحزمة من القوانين والتشريعات التي غيّرت خلال سنوات معدودات طبيعة النهج الاقتصادي للبلاد، فخرج اقتصاد السوق من الخزائن المقفلة، وتحول السوق إلى حاكم أعلى يفرض قوانينه وآلياته، وبدأت بالظهور نخب جديدة، تقود عملية التحول الاقتصادي وتطرح ملياراتها في استثمارات متنوعة توزعت بين التجارة والسياحة والجزر العقارية، وشيئاً فشيئاً دخلت هذه النخب إلى المنطقة التي كانت محظورة سابقاً، وطرحت استثماراتها في قطاعات النفط والموانئ، مع تصويبها الدائم على قطاع الكهرباء وشركات القطاع العام الصناعي.

لكن انفتاح الحكومات على فئات المجتمع الأخرى لم يجر على الوتيرة نفسها، فقد عانت فئات المجتمع، وخاصة الفقيرة منها والمتوسطة، أزمات معيشية واجتماعية نتيجة لانسحاب الدولة التدريجي من دورها الرعائي لهذه الفئات، فارتفعت نسبة المتعطلين عن العمل إلى أكثر من 17%، وتدنت الأجور الحقيقية لمتلقي الأجور، وارتفع عدد الفقراء، وعانت الأسر كثيراً للحصول على حاجياتها الأساسية.

لقد أكد المستشار الألماني السابق غيرهارد شرويدر الذي انتهجت بلاده اقتصاد السوق الاجتماعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في كلمته بعد منحه درجة الدكتوراه الفخرية من جامعة دمشق في عام ،2007 (إن جوهر الديمقراطية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية يكمن في تمكين البشر من تطوير مواهبهم وقدراتهم بحرية، لمنفعة الجميع. إن الأمر لا يمكن أن يدور فقط حول تحويل بنية الاقتصاد، بل يحتاج إلى انفتاح اجتماعي).

منفعة الجميع ليست فقط في التحول الاقتصادي، وإنما أيضاً في انفتاح اجتماعي لم يقل المستشار منفعة فئات محدودة تستأثر بنعم السوق وآليات السوق، لم يقل إغفال الاستحقاق الاجتماعي، وتهميش الفئات الشعبية ودور النقابات، لم يقل كلمة واحدة عن التحول إلى نهج رأسمالي نخبوي، يجعل 8,32% من الأسر السورية تلجأ إلى بيع ممتلكاتها الثمينة، و1,49% منها تبيع هذه الممتلكات من أجل التعامل مع الظروف الاقتصادية التي نشأت بعد سيادة السوق الحرة.

لذلك أكدنا في مقالاتنا حينذاك في (النور) ضرورة الانفتاح لا على الاقتصاد العالمي والنخب الثرية والمقتدرة فقط، بل على الجمهور الواسع.. على الفئات الشعبية التي تشكل أكثر من 80% من أبناء شعبنا، والذهاب إلى حل مشكلاتهم المعيشية والاجتماعية، عن طريق تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ورفع قدرتهم الشرائية عن طريق ربط الأجور بسلم متحرك لأسعار المواد الأساسية، فهم المستهلكون الأساسيون للسلع، وهم العامل الرئيسي في إنعاش الأسواق، أو في ركودها، وهم من تصنع من أجلهم مختلف المنتجات الصناعية والزراعية والخدمية.

واليوم، وبعد أزمة ومحاولة غزو إرهابي.. فاشي تسبّبا باستشهاد مئات ألوف المواطنين، وتهجير وهجرة الملايين، وفقدان الوظائف، وارتفاع نسبة البطالة، وازدياد معدلات الفقر، خلال سنوات ثمان، وبعد أن تصدى الجيش السوري بدعم من الفئات الشعبية لهذا الغزو، واستعاد معظم الأرض السورية من أيدي الإرهابيين التكفيريين، وضعت أمام البلاد استحقاقات إعادة الإعمار، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، بعد أن بلغت الخسائر المعلنة حتى الآن نحو 400 مليار دولار. إن ما نخشاه اليوم هو العودة إلى (النغمة) القديمة التي عزفها مسؤولو الاقتصاد السوري قبل عام ،2011 أي الانفتاح على الدنيا بأسرها، والانغلاق، وتهميش المصالح الأساسية للمواطن السوري، وهذا ما مهدت له السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات المتعاقبة خلال سنوات الأزمة.

فرغم التصريحات الحكومية بدعم جماهير الشعب السوري في تصديها لقوى الإرهاب، ووعودها بتحسين الوضع المعيشي والاجتماعي للمواطنين السوريين، فقد لاح الضوء الأخضر لدفن السياسات الاجتماعية المحابية للفقراء بدعوى تراجع إيرادات الخزينة، وعدم القدرة على تمويل الدعم الحكومي لأسعار المواد الأساسية، وجرى تضخيم حجم الدعم الحكومي رغم عدم شمول الدعم لملايين السوريين المهاجرين قسراً أو طوعياً. وهكذا صدرت قرارات تحرير الأسعار، ونفذت عن قصد.. أو دون قصد، نصائح الصناديق الدولية في زمن صعب، وذلك تمهيداً لقطع علاقاتها التي استمرت عقوداً عدة مع هموم الفئات الفقيرة والمتوسطة، والانسحاب من الهم الاجتماعي، وهي تحسم موقفها بالانحياز العلني النهائي – وليس الخجول كما فعلت حكومات العقد الماضي – إلى نهج اقتصادي نيو ليبرالي يطيح بجميع قطاعات الإنتاج الحقيقي.. ويحول جماهير الشعب السوري إلى كتل الفقر والفقر المدقع.

لقد حُرِّرت أسعارُ البنزين والمازوت والفيول الخاص بالقطاعات المنتجة، ورفعت الحكومة سعر الخبز، ورفع عبء الضرائب والرسوم غير المباشرة بنسبة 100%. وتساءلنا بعد صدور هذه القرارات: كيف سينعكس هذا الإجراء على صمود جماهيرنا الشعبية، والمتأملة بدعم حكومي أقوى، في ظل تراجع قدرتها الشرائية أمام الغلاء والفساد والاحتكار والسمسرة والمضاربات؟!

بصراحة نقول هنا: إن استمرار السياسات الهادفة إلى فرض اقتصاد السوق الحر فرضاً (من فوق) في دول تفتقر إلى المقدمات السياسية، هو أمر يخالف سمات السوق الحر ذاتها، وتجارب دول عديدة في هذا الإطار لم تثمر إلاّ اضطرابات اجتماعية وسياسية أدتْ إلى كوارث.

إن التعددية السياسية والاقتصادية لا تعني استئثار فئة سياسية بالسلطة، ولا سيادة (السوق الحر). إنها نهج سياسي يضم تحالفاً واسعاً من القوى السياسية الوطنية، في ظل دستور ديمقراطي علماني، يسعى إلى تحقيق التنمية الحقيقية الشاملة، ضمن شراكة بين الدولة والرساميل الوطنية والقطاع الخاص المنتج.. لا الطفيلي.

الانفتاح على الفئات الشعبية اليوم يقتضي أجوراً عادلة، واهتماماً بالتعليم العام والصحة العامة، يعني تنمية مناطقهم المنكوبة، يعني إشراكهم عن طريق نقاباتهم ومختلف تنظيماتهم المدنية باتخاذ القرار الاقتصادي، ويعني أخيراً الحرص على التنمية الاجتماعية على قدم المساواة مع التنمية الاقتصادية.

 

المراجع: كلمة شرويدر، صحيفة (الوطن) بتاريخ 21/6/2007.

العدد 1102 - 03/4/2024