فضاءات ضيقة.. الماضي المجيد لا يصنع وحده مستقبلاً مشرقاً

د. عاطف البطرس:

أربعة وتسعون عاماً مرّت على تأسيس الحزب الشيوعي السوري، الذي نتمنى له عمراً مديداً وسياسة رشيدة ونفوذاً جماهيرياً واسعاً.

الاحتفالات مناسبات ليست للتمجيد، ولا هي للحديث عن السلبيات والنواقص في تاريخ هذا الحزب أو ذاك، إنها وقفة نقدية تتوخى موقفاً موضوعياً من تجربة هذا الحزب أو ذاك منذ تأسيسه حتى اليوم.

الملاحظ للذين مازالوا في صفوف الحزب، ومن خرج منه، ومن تعاطف أو مازال متعاطفاً أو من ينتقده بحدّة، أنه يوجد شبه إجماع على تراجع دور الحزب وانحسار هيبته وضعف نفوذه السياسي، وبالتالي تراجع دوره وتأثيره في حياة البلاد، التي هي بأمس الحاجة إلى حراك سياسي فكري اجتماعي، لمواجهة تركات السنوات العجاف وما خلفته من آثار اجتماعية ونفسية وفكرية واقتصادية.

نظرة سريعة إلى مرحلة التأسيس عام 1924، وما واجهها من مصاعب، ثم مرحلة النهوض والفاعلية والفكرية والسياسية للحزب في خمسينيات القرن الماضي برغم الضربة الموجعة التي تلقاها من أجهزة نظام الوحدة السورية المصرية، الضربة التي لم تقصم ظهره بل زادته قوة ومنعة، وضاعفت عدد المؤيدين له بفضل صمود أعضائه في السجون والمعتقلات ونزاهتهم وصدقهم وإخلاصهم.

مع بداية السبعينيات بدأ دور الحزب بالتراجع التدريجي لأسباب مختلفة يمكن دراستها واستخلاص الأحكام العامة منها، لكن ليس السبب الوحيد موافقة الحزب على المشاركة في الجبهة الوطنية التقدمية، التي كانت بحد ذاتها إنجازاً تاريخياً، وإنما في الشروط التي وافق الحزب عليها للدخول في الجبهة، وهي معروفة للجميع.

هناك أسباب كبيرة غاية في التعقيد والدقة، منها ما يتعلق بالوضع الدولي وبسياسات الحزب الشيوعي السوفييتي وطروحاته النظرية حول أشكال الصراع بين النظامين العالميين الاشتراكية والرأسمالية، كسياسات التعايش السلمي والتحالفات والتعاون مع أحزاب البرجوازية الصغيرة في حركات التحرر الوطني، والتخلي عن الدور الطليعي للشيوعيين فيها، وهي أطروحات نظرية فكرية قابلة للنقاش في حينها، إلا أن تطور الحياة أثبت إخفاق هذه الآراء، مما ترك تأثيراً كبيراً على الأحزاب الشيوعية ليس في المنطقة العربية وحدها وإنما في العالم أيضاً، وصلت إلى ذروة ذلك بعد تفكك الاتحاد السوفييتي وانعدام المركز القيادي للحركة الشيوعية العالمية.

الانقسامات داخل الحزب تركت تأثيراً بالغاً وساعدت على إضعاف الثقة به، فكيف يمكن لحزب لا يستطيع لمّ صفوفه أن يدعو إلى أوسع تحالف جبهوي بين أحزاب مختلفة عقائدياً وبرنامجياً، بينما يخفق في توحيد الشيوعيين الذين أصبحوا أكثر من حزب، وجميعهم يعلنون استرشادهم بنظرية واحدة ينتسبون إليها هي الفلسفة الماركسية والنظرة المادية التاريخية وامتداداتها.

ومما عمّق أزمةَ الحزب الشيوعي السوري إضعافُ الحياة السياسية في سورية وسيادة الحزب الواحد (القائد للدولة والمجتمع)، وبالتالي التضييق على الأحزاب السياسية الأخرى، مما كان له أخطر النتائج على الحياة السياسية في سورية التي دفعت كل الأحزاب فيها، أثماناً باهظة لتلك السياسات.

هل يكفي الماضي المجيد للشيوعيين لاستعادة دور حزبهم، وزيادة فاعليته وتأثيره في حياة البلاد؟ وهل هم وحدهم من هو مسؤول عن ذلك؟! تلك أسئلة لا يمكن الإجابة عنها في المقاهي وعلى أرصفة الشوارع والأحاديث الجانبية، لأنها تتطلب دراسة موضوعية بعيدة عن الذاتية المفرطة والطوباوية والأوهام، فهي تحتاج إلى وقفة منصفة لا تتعلق فقط بتاريخ الحزب وحاضره، وإنما بعموم الوضع السياسي العام في سورية على ضوء تغير المعطيات الدولية والإقليمية والمحلية، وهو أمر ليس بسيطاً ولابد لمواجهته من شجاعة فكرية ونظرية وعملية، والعمل على إعادة هيكلة وبناء الوضع الداخلي للحزب ليتمكن من الاستجابة لحركة الواقع وتطوره.

والمطلوب من كل الحريصين على تاريخ هذا الحزب وعلى مستقبله أن يقوموا بمراجعة هذه التجربة الغنية والرائدة، بالاستناد إلى إحياء لها، لنصل ماضي الحزب بما نحلم به من مستقبل وفاعلية وتأثير في الحياة السياسية لسورية الغد.. سورية التعدد، والعقلانية، والعدالة الاجتماعية.

العدد 1104 - 24/4/2024