القهر السوري عرّى الشرعة الدولية وحقوق الإنسان
إيمان أحمد ونوس:
احتاجت البشرية بعد حروب طاحنة متعددة، أشهرها الحربان العالميتان الأولى والثانية، إلى قوانين ومعاهدات تخفف من معاناة الإنسان، بعد أن لقي ما لاقاه من ويلات ومآسٍ مزّقت وشوّهت كيانه الإنساني.
ففي عام 1945 حشدت قوات الحلفاء المنتصرة بقيادة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق المجتمع الدولي من أجل إنشاء منظمة من شأنها أن تعزز السلام وحقوق الإنسان، فجاء تأسيس الأمم المتحدة عبر الوثيقة التأسيسية التي تمّ توقيعها في حزيران عام 1945. وهذا الميثاق يُعتبر أعلى سلطة في القانون الدولي، ما يعني أنه يتجاوز أي معاهدات أو اتفاقات أخرى. وقد وقعت عليه 51 دولة، وقامت العديد من البلدان بإدراج حقوق الإنسان في دساتيرها وقوانينها الوطنية.
وللأسف، وبدل أن نكون قد وصلنا إلى مستوىً مقبول من العدالة الإنسانية والاجتماعية سواء بين الدول، أو في الدولة الواحدة ما بين الأنظمة ومواطنيها، إلاّ أننا ما زلنا نشهد في الوقت ذاته صراعات وعنفاً ما بين الأنظمة ومعارضيها، مثلما نشهد ونعيش صراعات وحروباً تنتهك في كل لحظة ليس فقط حقوق الإنسان وسيادة الدول، وإنما حياتنا المعرضة أبداً للموت المجاني والدمار الهمجي لمجمل مظاهر الحياة دون أدنى اعتبار لإنسانيتنا، لاسيما تلك الشعوب الواقعة في بلدان ما زالت ضمنياً تحت نفوذ وسيطرة الدول الاستعمارية بشكل غير مباشر(الدول العربية) ابتداءً من فلسطين التي ما زالت ترزح تحت الاحتلال الإسرائيلي الهمجي بكل سلوكياته الوحشية المعروفة، مروراً بالسودان وليبيا ولبنان والعراق وصولاً إلى سورية التي تشهد أعنف وأشرس حرب شهدتها البشرية، في خرق فظيع ومروّع لكل مواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان برمتها، وعلى مرأى ومسمع العالم أجمع دون أن يحرّك هذا الواقع المأساوي ساكناً لدى المجتمع الدولي سوى الإدانة والاستنكار، وتقديم بعض المنح والمساعدات للملايين من اللاجئين والنازحين في الداخل والخارج، مساعدات يتكرر التهديد بين حين وآخر بقطعها، لعدم وجود اعتمادات تغطي الحاجة الفعلية للأعداد المتزايدة من السوريين الذين يحتاجونها في ظل تلك الحرب المستمرة، في حين نجد أن الدعم المالي والعسكري للأطراف المتصارعة مستمر بالتدفق لتأجيج تلك الحرب إلى أمد مجهول بحكم المصالح والسياسات الدولية المسيطرة على المنطقة.
لقد شهدت الحرب السورية أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان بكل اتجاهاتها، كما جرى انتهاك الطفولة السورية بشكل لم تشهده باعتقادي أعتى الحروب، والأرقام الدولية تشهد على هذا الواقع الفظيع والمرير الذي يُعانيه أطفال سورية في الداخل والخارج، مما أدى إلى موت أعداد غير قليلة منهم، إضافة إلى البرد والجوع بحكم التشرد والنزوح وفقدان المقومات الأساسية للحياة، وهذا الواقع بكل ما فيه خرق واضح وصريح لاتفاقية حقوق الطفل الدولية والإعلان العالمي لحقوق الطفل دون أيّة مساءلة أو محاسبة دولية نصّت عليها الاتفاقيات المُلزِمة.
كما واجهت المرأة السورية منذ اليوم الأول لاندلاع تلك الحرب أقسى الإهانات والانتهاكات من الموت والقتل والخطف والاغتصاب والاعتقال والزواج القسري لطفلات لم تتبرعم أنوثتهن بعد، إضافة إلى مقتل أبنائها وزوجها، أو اغتصاب بناتها أمام عينيها، وطبعاً الحديث يطول عن مجمل الواقع العنيف الذي تعيشه معظم النساء السوريات، وفي كل هذا بالتأكيد انتهاك واضح ورفض لمجمل ما جاءت به اتفاقية مناهضة العنف والتمييز ضدّ المرأة، كما أنه انتهاك خطير وشائن لاتفاقيات جنيف المعنية بحماية الأطفال والنساء والمدنيين زمن الحرب.
إن ما شهده المجتمع السوري عموماً من خراب وتدمير وموت مجاني لم يُحرّك لدى المجتمع الدولي برمته سوى التنديد والاستنكار الضعيف من باب رفع العتب فقط، وحتى المجتمعات الإنسانية في عموم الدول لم تتحرك بشكل كافٍ لرفض ما يجري في سورية أو حتى في غزة- فلسطين، بينما وعلى مساحة المعمورة بأكملها بما فيها زعماء الدول العربية الموقّرة أدانوا واستنكروا ما تعرّضت له ألمانيا ليلة رأس السنة من تحرّش جنسي طال بعض النساء، كما أدانوا ما تعرضت له فرنسا من هجمات إرهابية سابقة، وخرجت المسيرات المليونية المناهضة لتلك العمليات والتي تطالب بمحاكمة المجرمين وبشدة لا هوادة فيها.
بالتأكيد نحن نرفض كل أعمال الإرهاب والعنف في أيّ مكان من العالم، لاسيما حيال المدنيين والأطفال والنساء، لكن المؤسف في الأمر، والذي يزيد من حدّة قهرنا، هو الكيل بمكيالين لدى تعامل المجتمع الدولي والإنساني عموماً في أية قضية قد تطول الإنسان في دولنا أو غيرها من دول الغرب. ورغم علمنا بالنوايا المضمرة للدول الكبرى والمجتمع الدولي، إلاّ أنه قد اتضح وبشكل فج وقذر وعلني أن الموقف الدولي من المسألة السورية هو موقف سياسي محض، وأن الدول الكبرى لا تريد لأزمتنا وحربنا أن تنتهي ما دامت هناك مصالح لها تقتضي استمرار الحرب لدينا.
وبعد كل هذا، وفي ظل وجود قانون دولي لحقوق الإنسان، يأتي السؤال الذي يُطرح اليوم وبإلحاح: هل استطاعت كل هذه الاتفاقيات والمواثيق والمعاهدات والعهود الدولية أن تصدّ الظلم والقهر والموت الذي يتعرض له ملايين البشر يومياً في أنحاء متفرقة من المعمورة، وسورية ضمنها؟ هل فعلاً بإمكان تلك الشرعة أن تحاسب مرتكبي الجرائم المتعددة والمتنوعة على ما ارتكبوه بحق بشر لا ذنب لهم سوى أنهم ضعفاء أمام جبروت أولئك المجرمين؟
ألا يظهر للمجتمع الدولي عموماً، وللأمم المتحدة خصوصاً أن مجمل الشرعة الدولية بكل معاهداتها وإعلاناتها ومبادئها واتفاقيتها كانت في مهب رياح الحرب في سورية؟
أجل، إن كل الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية، وعلى رأسها ميثاق الأمم المتحدة، قد أصبحت أوراقاً مبعثرة في مهب رياح أزمتنا السورية العاصفة، وذلك خدمة لمصالح دول لا تقيم وزناً لا للإنسان ولا لحقوقه التي ينتهكها رأس المال والمصالح السياسية والاستعمارية.