ثقافة التسليع..

السعر الحقيقي لأي سلعة هي ما يستعد الشخص لدفعه لقاءها.. عبارة بسيطة جداً ترد على لسان بطل الفيلم الأمريكي Nightcrawler))، لتختزل رحلة ضارية قطعتها ثقافة التسليع في  المجتمعات الرأسمالية، كي تحول القيمة الإنسانية إلى مجهود استنزافي خاضع للمساومة.   

تدور الأحداث في مدينة لوس أنجلوس حول شاب عاطل عن العمل يدعى لو بلوم (JakeGyllenhaal)، ترعرع مع حركة حب الذات التي كانت شعبية في المدارس. وطوّر قناعاته حول ثقافة العمل المعاصر التي باتت تفتقر إلى التفاني في العمل بمفهومه التقليدي. وتعتمد بشكل أساسي على استراتيجية التسويق إضافة إلى المثابرة، وقابلية المرونة من أجل التأقلم مع أي عمل متاح. وهو النموذج الذي يتلاءم مع بيئات حاضنة للعنف والجريمة ونسب البطالة المرتفعة. لذلك كان من الطبيعي أن نرى بلوم وهو يسرق الكابلات النحاسية وأغطية المجارير ثم يركب سيارته ويتوجه إلى مخزن تاجر يحمل وجه مجرم، فيساوم على بيع المسروقات ليعطي انطباعاً قوياً بخبرته، قبل أن يحاول التفاوض طلباً للعمل. لكن التاجر يشتري المسروقات ويرفض توظيف اللص.

 أثناء قيادته السيارة يستوقفه حادث مروي ومرأى رجال الشرطة وهم يحاولون إخراج جريح.   وفجأة تتوقف شاحنة ويخرج منها رجلان مسرعان يحملان كاميرات سينمائية، يصوران المصاب ويغادران بعد مساومة سريعة مع إحدى المحطات التلفزيونية لعرض الشريط المصور ضمن أخبار الصباح.. تشكل الحادثة مدخلاً ممتازاً للمخرج (Dan Gilroy) كي يعرض آلية التوحش في المجتمع الأمريكي المبني على تسويق العنف كوجبة يومية تذكي هاجس الخوف عند المتلقين وتستدّر أموالهم بذريعة الحماية. من هذا المنطلق تبدو الجريمة المدينية، التي تتسلل إلى الضواحي، خبراً ممتازاً يشكل عامل جذب قوي يضاعف أثره كون الضحية بيضاء وثرية، يؤذيها فقير أو أحد أفراد الأقليات.. مع الأخذ بعين الاعتبار حوادث السيارات والتصادمات والحرائق وعمليات الانتحار الدموية.. 

يسرق بلوم دراجة هوائية ليشتري بثمنها كاميرا وجهاز المسح الخاص بالشرطة. وبعد عدة محاولات فاشلة، ينجح في الاقتراب بجرأة من مصاب وتصويره. ثم يتوجه الى محطة تلفزيونية مغمورة لبيع شريطه المصور، فتعرفه مخرجة أخبار الوردية الليلة نينا على أصول العمل. فيدرس شيفرات الشرطة من الانترنت، ثم يوظف شاباً صغيراً تحت التمرين مقابل ثلاثين دولاراً في اليوم مستغلاً حاجته الماسة للمأوى والعمل. وخلال شهرين ينجح بامتياز في مهنته محققا تناغما كليا بين الصورة والإطار. فترتفع نسب المتابعة للقناة المغمورة، بفضل دقة اختيار المشاهد الصادمة للمشاعر وطريقة عرضها الموافقة للمنهج التسويقي العام. وحين يسبق الشرطة في الوصول إلى مكان الحادثة يكون قد ارتفع إلى مستوى أكثر تقدماً في عمله. لكن الدم العالق على ثيابه نتيجة سحب الجثة لتصويرها، يكون مؤشراً لبداية تورطه الدموي في صناعة الجريمة وتسويقها إعلامياً. ففي سعيه لتحقيق أمن الوظيفة يزيح زميله المنافس الشرس، بعد أن يتلف كوابح شاحنته، ثم يصور جثته قبل وصول الشرطة، مركزاً على نظرة الحقد التي يواجهه بها قبل موته. وبنفس الوقت ينجح في رصد جريمة قتل ثلاثية قبل وصول الشرطة، ثم يستثمر شريطه لاستدراجهم إلى مواجهة مكشوفة مع القتلة محققا سبقاً إعلامياً تتهافت عليه المحطات التلفزيونية. فينعكس مؤشر النجاح ابتزازاً ضمن قالب الإذلال والمساومة بين بلوم والمخرجة نينا. إذ يفرض عليها علاقة جسدية رغم التفاوت الكبير في العمر بينهما، في إشارة الى مقدرة الصفاقة والانتهازية على إلغاء تاريخ طويل من المثابرة والعمل المهني. فاستثمار نينا في هذه الصفقة لضمان تجديد عقدها وتأمينها الصحي يصبح معادلاً مكافئاً للتوسع المادي لبلوم، وإشهار شركته الوهمية لإنتاج الفيديو وكافة الأخبار الاحترافية، ومنحها وجوداً مادياً ملموساً رغم غياب الرأسمال.

العدد 1105 - 01/5/2024