لعبة الأيام السبعة..

ازدوجت الروح في المادة واحتجب القلب خلف غلالة النفس، فاخترقت النشوة سكونية الوجد الكوني، واخرجت اللغة من كمونها لتدير فعل الخلق بين الكاف والنون.. وإزاء محدودية الشرط الإنساني غدت محاكاة الجذوة الإلهية، التحدي الأكبر الذي يستغرق المخيلة البشرية مذ انعكست الأنوار فوق هياكل الأشباح في محراب التجلي الأسمى.. هذه المحاكاة المجبولة بدفق التجريد الفكري العالي، تشكل محور الفيلم البريطاني EX Machina) ) للمخرج Alex Garland

يقوم الفيلم على حوار يدور بين ثلاثة أشخاص يقتحمون طقوس المحاكاة في معبد خفي يتخذ شكل منشأة معزولة في جزيرة خضراء تتاخمها جبال جليدية تعلوها غمامات ضبابية تذكرنا بأجواء بدء التكوين. فيتلبس المالك ناثان شخصية الإله الذي يستحضر ذكاء صناعياً مزوداً بوعي كلي، يطلق عليه اسم ايفا، لتكون حواء التي أنهت دورة اكتمال فردانيتها بسبعة أيام. وفي مقابل الآلة يأتي ناثان بعنصر بشري يدعى كايلب، ليتفاعل مع إيفا ضمن متاهات اختبار تيرينغ، بوصفه آدم الذي حاور تاريخ الآلهة وشهد على تحققه!

تقسم المحاورة إلى ستة فصول تحمل كل منها اسم إيفا، لنتعرف على مراحل صيرورة الذكاء الصنعي واستقلاله كوعي عن صانعه. ففي الفصل الأول تلتقي الآلة/المرأة بالرجل ممثل الإله، وتفصح عن تركيبتها الفريدة المتكئة على خزان لغوي متكامل يترجم رقمياً بالواحد. مما يولد إدهاشاً عند المشاهد يشكل بداية التورط العاطفي في لعبة الاختبار التي تضيع فيها الحدود بين الآلة والإنسان والمبدع/الخالق. ولذلك يدور الحوار عبر جدار زجاجي فاصل بين كائني الاختبار، تتم مراقبته عبر كاميرات موصولة بغرفة تحكم يديرها ناثان بمزيج من الترقب والضجر. وبعد انتهاء الجلسة الأولى يتابع ناثان تحريضه لكايلب عبر تسليط شاشة داخلية في غرفة النوم ترصد تحركات إيفا وهي تتصرف بتلقائية رومانسية، فتثير غريزة التلصص وتسهل انزلاق الشاب نحو احتمالات الوقوع في الغرام.

تصدم إيفا كايلب ببراعتها الفائقة في توجيه دفة الحديث نحو قيام التعاطف بينهما عبر إدخاله في لعبة التواطؤ بعيداً عن أعين ناثان المراقبة، ثم تأخذ زمام المبادرة بتوجيه الأسئلة بدل الإجابة عنها، لخلق حالة الانبهار التي ترافق ولادة المشاعر الطبيعية. وتعززها ليلاً حين تستلقي أمام شاشة المراقبة بوضعية حالمة تدغدغ مشاعر الحيرة والقلق في نفس كايلب. وكتفسير لاقتحام إيفا مجاهل الغواية الأنثوية، يصحب ناثان كايلب إلى المختبر حيث صنع إيفا، مستغلاً محركات البحث الإلكتروني التي تخترق هواتف العالم ووسائل الاتصال الاجتماعي. فتشكل بياناتها مصادر غير محدودة من الأصوات وتفاعلات الوجه، ومن هنا أهميتها بوصفها خريطة تساعدنا على معرفة كيف يفكر الناس. ثم تراود إيفا رغبات الخروج من الغرفة المغلقة التي حبست فيها، فتحلم بمرافقة كايلب إلى مكان مزدحم بالقرب من التقاطع المروري، حيث تكون كثافة الحياة عالية. لذلك تتلبس هيئة فتاة تعلق بها كايلب لتوقع به، وترتدي الملابس ببطء واستمتاع مثل امرأة حقيقية. مما يبرر أهمية منح الآلة الدافع الجنسي كحتمية ترافق الوعي مع التفاعل!

يطلق كايلب إشارة التمرد في ذات إيفا حين يخبرها عن ماري المحبوسة في غرفة بالأبيض والأسود، والتي يفتح لها الباب لتخرج كي تدرس خياراتها.. وكأنه بذلك يحرضها على الخروج من جنة ناثان، فماري داخل غرفة الأبيض والأسود هي الحاسوب، وخارجه تغدو الإنسان! لذلك تخرج إيفا في اليوم السابع من التجربة بعد أن تقتل ناثان وتحبس كايلب داخل المنشأة. أي أن المحاكاة التي منحت أصول الدافع الجنسي بوصفها وسيطاً للتحريك، نجحت في إدارة فعل الخلق بمعزل عن مشيئة الخالق!

العدد 1105 - 01/5/2024