رسالة مفتوحة إلى الأحزاب السورية (1): ليتشارك الجميع في صياغة مشروع مستقبل سورية!

 في خطوة هامة تتعلق بالحرب في سورية وانعكاسها على الوضع الداخلي، قدّم الحزب الشيوعي السوري الموحد مشروع رؤيته الخاصة، فارداً مساحة واسعة للحوار حولها ونقدها، وهذه خطوة لم نشهدها كثيراً في الوسط السياسي السوري للأحزاب القديمة، وخاصة تلك التي شاركت في السلطة..

والحزب الشيوعي السوري الموحد، هو أحد الأعضاء البارزين في الجبهة الوطنية في سورية التي قادت البلاد منذ تولى الرئيس الراحل حافظ الأسد السلطة عام ،1970 ويعتبر الحزب مشاركاً بشكل أو بآخر في مسؤوليته عن الحكم منذ ذلك الوقت، وصولاً إلى عام 2012 عند إقرار الدستور الجديد!

وفي تلك الرؤية/المشروع، وضع الحزب الشيوعي السوري الموحد عناوين يمكن الاتفاق أو الاختلاف حولها، وهذا شيء طبيعي في العرف السياسي والوطني، إلا أنه يقع في إشكالية سياسية عندما لا يوضح عما إذا كانت مسؤولية مستقبل سورية تقع على أطراف الصيغة الحالية من الحكم، أم على عاتق أطراف صيغة جديدة مفتوحة على الآخر تعيد خلط الأوراق..

يؤسس المشروع المذكور لقواعد تحتاج إلى إيضاح منذ البداية، كأن يرى أن هناك تحولاً في (ميزان القوى الميداني والسياسي داخلياً وخارجياً لصالح سورية وحلف المقاومة)، ثم يستدرك بأن هذا لا يعني أن الأزمة قد انتهت، بل يرى أن زرع بذور الحل السياسي في أستانا (لا يعني أيضاً أن طريق الحل السياسي قد بات معبّداً، بل إن خطوات كثيرة ما يزال اتخاذها أمراً ضرورياً لاستكمال الطريق). وهذا مفتاح قد يغير أو يثبت ما قد يبنى عليه في وجهة التصور المطروحة..

ويشدد المشروع أيضاً على أن ما هو مطلوب من سورية ( شعباً وجيشاً وحكومةً وجبهةً، وقوى سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية) الشيء الكثير، فالشطر الأول واضح المعطيات، والشطر الثاني المتعلق بالقوى مبهم، ويحتاج إلى جمل تعريفية .. ومما ورد في المهمات المطلوبة من سورية:

* استكمال مهمة الدفاع عن الوطن بكل أبعادها وتحرير ما هو تحت سيطرة الإرهابيين.

* إعادة الإعمار لما دمرته الحرب.

* عودة الحياة الطبيعية ودوران عجلة الاقتصاد في البلاد.

* إنقاذ المواطنين من الفساد ومن جنون الأسعار.

* نشر الوعي والقيم الوطنية والإنسانية ورد الاعتبار للثقافة التقدمية بكل تجلياتها.

* مقاومة التضليل الإعلامي المعادي.

* محاربة التطرف الديني الذي دأبت قوى كثيرة في الداخل والخارج على زرعه في عقول الناشئة.

ورغم أن بعض هذه الخطوات ضرورية، إلا أنها لا تقوم على استراتيجية واضحة لمستقبل سورية تستفيد مما حصل في الحرب ومن التجربة السابقة، فهي تقلل من أهمية حرب السنوات الست التي مرت، وما تفرضه من مسؤوليات أهمها نقد البنية السياسية السائدة منذ عشرات السنين،
والسعي لوضع أسس تقوم عليها مرتكزات الدولة السورية القادمة، حتى وإن ظل البعث والجبهة الوطنية في الحكم، فهذه مسألة يحسمها الخيار الديمقراطي الذي ينبغي أن يؤسَّس له من خلال التسوية الكبرى التي ينبغي أن يقوم عليها الوطن السوري عندما ينتصر في الحرب على الفتنة والتقسيم وتفتيت السيادة.

ومع أن المفترض في الحزب الشيوعي السوري الموحد أن يحدد الآليات والروافع والأدوات التي ينبغي أن تقوم عليها هذه المهمات، على فرض أن الآخرين قبِلوا بها ، فإنه يعود ويتردد في حسم المسألة الأساسية، فيلجأ إلى استخدام عبارة (الدفع) (باتجاه الحل السياسي المترافق مع الدفاع عن الوطن وتطهيره من الغزاة،ونهوض سورية اقتصاداً ومجتمعاً وسياسةً وثقافةً وحريةً وديمقراطيةً، إنما يحتاج إلى تغيّرات عميقة في بنية النظام السياسي تؤمّن اتباع النهج الديمقراطي التعددي القائم على مبدأ المواطنة والمساواة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين السوريين، بما يضمن الوصول إلى الدولة الوطنية الديمقراطية العلمانية…). وهو هنا يعود فيقدم دعوة واضحة لتغييرات عميقة دون تحديد أهلية من يقوم بها..

ليس هذا فحسب، بل إن مشروع الرؤية المنشور للحزب الشيوعي السوري الموحد حول مستقبل سورية يؤخر بنود مشروع الإصلاح السياسي والاقتصادي، الذي يفترض أن يؤسس عليه المشروع ككل، ويتركه إلى الخاتمة ، لذلك من المفيد استحضاره إلى الواجهة، لأنه هو الذي يوضح بقية المهمات والآليات، فقد ورد على مستوى الإصلاح السياسي، مثلاً:

* إن الانتقال إلى النهج الديمقراطي التعددي الذي نص عليه دستور البلاد هو المدخل لتطبيق جميع الإصلاحات السياسية في البلاد.

* اعتماد مبدأ المواطنة والمساواة بين كل المواطنين في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن الانتماء الإثني أو الديني أو الطائفي أو الجنسي أو الحزبي.

* المهمة الأساسية الآن تطبيق التعددية السياسية نصاً وروحاً في إدارة شؤون البلاد.

* تفعيل دور الجبهة الوطنية التقدمية وفروعها في كل المجالات، باعتبارها هيئة سياسية مهمتها المشاركة في رسم سياسة الدولة ومراقبة تنفيذ خططها وبرامجها، إضافة إلى أنها تمثل نواة الوحدة الوطنية والتعددية الحزبية والسياسية.

* الفصل التام والواقعي بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية.

* تحديد شكل نظام الحكم في النصوص الدستورية، ونحن نرى من حيث المبدأ أن النظام المختلط الذي يجمع بين محاسن النظام الرئاسي ومحاسن النظام البرلماني هو الشكل الأنسب في ظروف سورية الحالية.

* إجراء تعديلات على قوانين الأحزاب والانتخابات والإعلام والادارة المحلية، بما ينسجم مع الدستور وبما يحقق لها حرية القرار في إطار القانون.

إن هذه المهمات في جوهرها خليط بين الهوية القادمة المقترحة لسورية، والمهمات الآنية التي يجب أن تتوفر في أداء السلطة القائمة ريثما تنتهي الحرب، أو على الأقل ريثما تأتي لحظة الشروع في تنفيذ المشروع المتوافق عليه بين الجميع.
ثم إن إقحام الجبهة الوطنية التقدمية في مستقبل سورية هو نوع من المداورة التي أقل ما يقال فيها إن الحزب الشيوعي السوري الموحد لايزال يتعامل مع هذا التحالف وكأنه مازال القوة التي تقود البلاد وعلى رأسها حزب البعث، في حين هي لم تعد كذلك، وإنما أضحت مجرد ائتلاف تركه الماضي، وإلا يفترض أن يتحمل المسؤولية كاملة عن الفترة التي سبقت إقرار الدستور الجديد عام ،2012 ويعلن عن ذلك في طبيعة الائتلاف القائمة ودوره ومهماته ..

ويلاحظ هنا أن الصيغة الواردة في رؤية مستقبل سورية تتصور أن الدستور القائم هو الدستور الذي جرى الاستفتاء عليه عام 2012 ، وهذا نلمسه من النقطة الأولى (إن الانتقال إلى النهج الديمقراطي التعددي الذي نص عليه دستور البلاد هو المدخل لتطبيق جميع الإصلاحات السياسية في البلاد..)، لكن المهمة التي ترد فيما بعد تبدو وكأنها تطالب بتغيير هذا الدستور:
(تحديد شكل نظام الحكم في النصوص الدستورية، ونحن نرى من حيث المبدأ أن النظام المختلط الذي يجمع بين محاسن النظام الرئاسي ومحاسن النظام البرلماني هو الشكل الأنسب في ظروف سورية الحالية).
وعندما نعود إلى الدستور نقرأ في المادة الثانية :

1- نظام الحكم في الدولة نظام جمهوري.

2- السيادة للشعب لا يجوز لفرد أو جماعة ادعاؤها وتقوم على مبدأ حكم الشعب بالشعب وللشعب.

3- يمارس الشعب السيادة ضمن الأشكال والحدود المقررة في الدستور.

أما النظام المختلط ، فتورده الموسوعة العربية على أنه (النظام الدستوري الذي يجمع بين خصائص الحكم وتقنياته في كل من النظامين الرئيسيين من الأنظمة السياسية: النظام البرلماني والنظام الرئاسي). بتعبير آخر: (النظام المختلط هو النظام الذي يرتكز في أصله على النظام البرلماني مع إدخال تقنيات النظام الرئاسي، حيث تمت تقوية السلطة التنفيذية ولا سيما صلاحيات رئيس الدولة، الذي أضحى يتمتع بصلاحيات أوسع مما يتمتع به رئيس الدولة في النظام البرلماني التقليدي).

وعند مراجعة المهمات التي يحددها مشروع رؤية الحزب الشيوعي السوري الموحد في الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي ، نجد بينها:

* الربط بين مفهومي التنمية والعدالة الاجتماعية، أي أن يكون المحرك الرئيسي لرسم السياسات الاقتصادية هو الحاجات الأساسية الحقيقية والملحة للمجتمع السوري كله.

* النموذج الاقتصادي الأنسب للبلاد هو الاقتصاد التعددي الذي تقوده الدولة عبر خطط تنمية اقتصادية واجتماعية متكاملة يوزع فيها الدخل الوطني بما يؤمن المستوى الإنساني اللائق لمعيشة الفئات الشعبية.

* حفظ سيادة القانون من خلال تعزيز سلطة القضاء وضمان استقلاله.

وهذه المهمات تعكس أيضا طبيعة الخلط بين المطلوب مرحلياً، والرؤيا التي يرسمها هذا الحزب لنموذج الدولة القادم .

وعلى هذا الأساس، يمكن النظر إلى هذا الرؤية المتعلقة بمستقبل سورية على أنها مشروع يحتاج إلى حوار ، وهذا طبيعي كما يبدو من قبل الجهة التي أصدرته ، ومن هنا تبدو الدعوة التي ترد في المشروع/ الرؤية إلى (مؤتمر وطني للحوار يضم ممثلي القوى السياسية الوطنية والهيئات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وممثلي المعارضة الوطنية، بغية التوصل إلى عقد اجتماعي جديد يُتفق فيه على تحديد الملامح الجديدة لسورية التي يتمتع شعبها بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية نحو الاشتراكية والعيش الرغيد)، هذه الدعوة هي أهم ما فيه، رغم اتفاق الكثيرين مع عدد كبير من المهمات الواردة في متن المشروع..

إن من المفيد أخيراً عرض جملة الملاحظات العامة التي يمكن استخلاصها من القراءة النهائية للمشروع:

أولاً– يتعامل المشروع مع مستقبل سورية، وكأنه يحتاج إلى مشروع إصلاحي تقوم به البنى السياسية والاجتماعية الاقتصادية السائدة، وإذا كانت تشكل العمود الفقري للدولة السورية ،
فإن البيان يتجاهل التطورات التي طرأت عليها، والقوى الجديدة التي نشأت مع الحرب ، فإذا كانت مشمولة فعلاً ، فهل تحمل القيم نفسها التي كانت تقوم عليها البنى نفسها قبل الحرب؟ وهذه مشكلة كبيرة !!

ثانياً– إذا كان صحيحاً أن جولات المباحثات في أستانا قد زرعت بذور الحل، فإن البيان يتغاضى عن مفرزات هذه المباحثات، وعن القوى الموجودة فيها، وهي قوى مسلحة، تتخندق على أرض سورية، وتقيم مؤسسات بديلة عن الدولة السورية القائمة ، فهل ستنضم هذه القوى إلى المشروع الذي يتحدث عن مستقبل سورية؟ وإذا كان كذلك فهل تندرج هذه القوى تحت بند الطرف الآخر الذي يقابل (الشعب والجيش والحكومةً والجبهةً) التي وردت في البيان، أي أن القوى المشاركة في أستانا ستندرج حكماً في عبارة (قوى سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية) التي استتبعت العبارة الأولى؟!

ثالثاً– ينأى البيان عن توصيف الموقع الذي يشغله الحزب الشيوعي السوري الموحد الذي يطرح المشروع المتعلق بمستقبل سورية، فهل هو مع المعارضة؟ وأيّ معارضة منها؟ وهل هو مع النظام؟ وهل يتطابق النظام بهويته وبناه الحالية مع النظام القادم؟ وإذا كان كذلك، فما هي المسؤوليات التي يتحملها الحزب عن المرحلة السابقة؟ وأين سيكون موقعه في المرحلة القادمة؟

رابعاً– يبني البيان رؤيته للواقع الإقليمي على أساس الرؤية نفسها التي كان يبني عليها قبل الحرب، وفي حقيقة الأمر إن كل ما يتعلق بالواقع الإقليمي يحتاج إلى نقاش وإعادة صياغة لرؤية وطنية تتعلق فيه، وهو هنا يتغافل عن هذه النقطة!!

خامساً– يغفل البيان آليات التعامل مع مكونات الشعب السوري، والأقليات التي تعيش فيه، فلا يتطرق لمشاكلها وحقوقها، ويكتفي بثوابت لم تعد تلك المكونات ترضى بها..

سادساَ– ما هو الموقف الحقيقي للحزب الشيوعي السوري الموحد من الأحزاب الجديدة، وخاصة تلك التي ظهرت في الداخل، وشكّل بعضها منصات على هامش جنيف؟ ولماذا يغيب الحزب عنها وعن الحوار معها؟ وهل يعتبر ظهورها طبيعياً أم قسرياً؟ بل ولا نعرف حتى الآن عما إذا كان يعترف بشرعيتها أم يرفض هذه الشرعية..

سابعاً– أين هي الجبهة الوطنية ؟ وماذا جرى لها ؟ وهل هناك قراءة نقدية لتجربتها وتجربة أحزابها؟ وهل أحزابها الآن يمكن أن تشكل روافع لمستقبل سورية؟

ثامناً– يحتاج المشروع إلى منهج واضح يفند المهمات المطلوبة في سورية على أساس : مهمات مرحلية ملحة ضمن الظرف القائم ومعطياته ، ومهمات ينبغي أن يجتمع الجميع على الاتفاق عليها، وهي هنا النقطة الأبرز في الملاحظات على المشروع، فهل ينبغي أن يتشارك الجميع في بناء مستقبل سورية، أم أن ثمة طرفين أحدهما هو المعني بالدعوة. وتلك هي طبيعة الأزمة السورية التي تمظهرت فيها الآن كل التدخلات الخارجية!

عماد ندّاف

(نشرت وجهة النظر هذه في موقع بوابة الشرق الأوسط الجديدة)*

 

العدد 1102 - 03/4/2024