فنزويلا والولايات المتحدة.. من يشكل خطراً على الآخر؟!

هل يمكن لعاقل أن يصدق أن فنزويلا، الدولة الفقيرة التي لا يزيد عدد سكانها على 29 مليون نسمة، والتي لا تنفق على جيشها سوى 1% من إجمالي ناتجها المحلي، يمكنها بحال من الأحوال أن تشكل خطراً على الولايات المتحدة الأمريكية التي تنفق على جيشها المتضخم نحو 5% من إجمالي ناتجها المحلي؟!

مناسبة هذا الكلام أن الرئيس الأمريكي أوباما أصدر مؤخراً أمراً تنفيذياً جاء فيه: (أن بعض كبار المسؤولين الفنزويليين جرّموا المعارضة السياسية، وأنهم فاسدون). بالتأكيد ليس ثمة ما يشير إلى أن فنزويلا تهدد بالقيام بعمل عسكري ضد الولايات المتحدة، أو تشجع الإرهاب، أو تهدد أمريكيين.

إزاء هذه الحجة الأمريكية، أي أن (فنزويلا تجرّم المعارضة السياسية)، يبرز السؤال التالي: ماذا تفعل الولايات المتحدة؟ وكيف تتصرف مع المعارضة في ظروف مشابهة؟

في خريف عام 2011 عندما اندلعت حركة (احتلوا) في أرجاء الولايات المتحدة، كرس جهاز الأمن القومي الأمريكي، وبضمنه وكالة الأمن الوطني، وما يُطلق عليها مراكز التكتل الـ72 التي كانت قد أقيمت في جميع المدن الأمريكية الكبرى، لتربط بين أجهزة الاستخبارات على مستوى الدولة والولايات والمقاطعات، كرس معظم موارده الاستخبارية والشرطية المحلية للتجسس على الموجة المسالمة من الاحتجاج على الفساد المستشري في أوساط الطبقة السياسية والصناعة المصرفية.

أما وكالة الأمن القومي، فقد كشف إدوار سنودين وغيره أنها تصب كل جهودها على مراقبة غير مسبقة لكل أشكال الاتصالات بين المواطنين الأمريكيين، لا لمنع وقوع اعتداءات إرهابية كما تدعي، بل أكثر من ذلك هي تعمل على تجميع وإعداد ملفات لملايين المواطنين الملتزمين بالقانون!

أما مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالات الاستخبارات الوطنية الأخرى، فتصف في ملفاتها الناشطين المناهضين للحرب، والناشطين في مجال البيئة، وحتى الناشطين في مجال حقوق الحيوان، بأنهم إرهابيون؟!

إذا ما نُظر إلى الأمر بموضوعية يتضح أن الولايات المتحدة هي التي تشكل تهديداً أمنياً لفنزويلا وليس العكس كما تدعي واشنطن، ولا يوجد أي دليل على أن حكومة الرئيس نيكولاس مادورو في كاراكاس أو حكومة الرئيس الراحل شافيز من قبلها، المنتخبتين شعبياً، قد سعتا يوماً من الأيام إلى إثارة العنف في الولايات المتحدة أو التدخل في أية انتخابات أمريكية لتخريبها.

بالمقابل هناك أدلة كثيرة ودامغة على أن الولايات المتحدة سعت مراراً إلى تقويض الانتخابات في فنزويلا منها:

1- في عام 2002 حدث انقلاب عسكري فاشل مقتضب وصل إلى درجة اعتقال هوغو تشافيز واحتجازه، رئيس البلاد المنتخب لفترة وجيزة، في الوقت الذي وعد فيه رئيس الولايات المتحدة آنذاك بوش الابن باعتراف سريع بمدبري الانقلاب مثنياً عليهم باعتبارهم- حسب وصفه- مخلصين للديمقراطية، ولكن قبل حصول ذلك الاعتراف رسمياً، انتفض الفنزويليون مع رتب عسكرية في جيش البلاد، ما أدى إلى إطلاق سراح شافيز من الاحتجاز، وعودته الظافرة إلى قصر الرئاسة، وبذلك فشل الانقلاب العسكري الذي دبرته واشنطن فشلاً ذريعاً.

2- في وقت أقرب ساعدت الولايات المتحدة من خلال (الصندوق الوطني للديمقراطية) الممول من الكونغرس، و(الوكالة الأمريكية للتنمية) المرتبطة بوزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية، ساعدت في تمويل وتنظيم اضطرابات سياسية خلال عام 2011 في فنزويلا.

3- في شهر شباط الماضي، حرضت الولايات المتحدة على محاولة انقلاب فاشلة تمكنت السلطات الفنزويلية من إحباطها، وأسفرت عن اعتقال عدد من قادة الجيش اليمينيين والمدنيين المتعاونين معهم في هذا المجال، إضافة إلى عدد من الأمريكيين المتواطئين مع المحاولة.

هذه بعض الأمثلة وغيرها الكثير على كيفية تدخل الولايات المتحدة في شؤون فنزويلا الداخلية.

ومن هنا فإن هجوم أوباما الأخير على فنزويلا الذي جاء على هيئة أمر تنفيذي يعلن أن فنزويلا بلد يشكل تهديداً قومياً لأمريكا، ما هو إلا صيغة رسمية ضرورية لتمكين الولايات المتحدة من فرض عقوبات اقتصادية متعددة على فنزويلا لإرهاقها والتأثير عليها، كما أنها تشكل (تهديدات حقيقية للأمن الوطني موجهة ضد فنزويلا)، علماً بأنه لم تحدد بعد ماهية هذه العقوبات.

ومما يجدر ذكره أنه في الماضي، أيام الحرب الباردة وما قبلها، كانت الولايات المتحدة تتظاهر شكلياً على الأقل بأنها ملتزمة بالأعراف الدولية، وأنها تعمل من خلال الأمم المتحدة على كسب التأييد الدولي لتصرفاتها، وذلك كمحاولة منها للتمويه على ما تقوم به من أعمال التخريب والعدوان، سواء باختلاق حوادث مفتعلة مثل الهجوم الخيالي الذي زعمت أن قوارب حرب فيتنامية شمالية، شنّته عام 1964 على مدمرة أمريكية في خليج تونكين، لتبرير شن حرب على فيتنام.

وفي عام1973 دبرت واشنطن انقلاباً عسكرياً من وراء الكواليس في تشيلي أطاح بالرئيس المُنتخب سلفادور الليندي وأدى إلى قتله.

لكنها الآن تعمل جهاراً وبوقاحة متناهية للإطاحة بحكومات شرعية منتخبة وبرؤساء منتخبين كما حصل مؤخراً في أوكرانيا.. فهي تعمل علناً على إذكاء نار الفوضى والقلاقل فيها، إذ تسعى إلى تقويض اتفاق وقف إطلاق النار في مينسك، الذي تم التوصل إليه بالتفاوض بين روسيا وبعض الدول الأوربية، منها ألمانيا وفرنسا من جانب، والطرفين المتحاربين في شرق أوكرانيا من جانب آخر، وهي تفعل ذلك بتقديم الأسلحة والمستشارين العسكريين إلى جيش كييف الانقلابي الانفصالي، كما تحرض واشنطن زعماء كييف الفاشيين الجدد على استمرار محاربة من تسميهم زوراً وبهتاناً (المتمردين الانفصاليين) في منطقة دونباس.

باختصار إن الوقائع والتطورات والأحداث تؤكد أن التهديد الحقيقي للأمن الوطني في فنزويلا وفي جميع أنحاء العالم اليوم، يتجسد في الحكومات الأمريكية المتعاقبة، التي تسعى بشتى السبل والوسائل إلى التآمر على أمن شعوب العالم، سواء كان ذلك في دول العالم الثالث أو في روسيا والصين، أو في دول أوربا المتحالفة معها، وأكثر من ذلك فإن سياسات هذه الحكومات تشكل خطراً أيضاً على الشعب الأمريكي نفسه.

العدد 1105 - 01/5/2024