السادس من أيار.. تخليد لكل الشهداء الذين سقطوا في ساحات الشرف

في تاريخنا العربي نقاط مضيئة ومواقف إنسانية تدعو إلى الفخر والاعتزاز، وفي تاريخنا أيضاً هزائم ونكسات، وقد أصابنا ما يصيب الأمم جميعاً، وقصة السادس من أيار هي قصة كفاح مرير لشعبنا ضد الظلم والاستبداد.

لم تمر مرحلة تاريخية إلا واجه فيها الوجود العربي تحدياً على يد قوى محتلة وغاصبة.. فقد كانت منطقتنا العربية بحكم موقعها الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي هدفاً لمخططات تآمرية استعمارية، وقد وقعت فريسة للحكم العثماني طوال أربعة قرون تعرض خلالها الوطن العربي لظلم وإرهاب قل نظيرهما.

منذ أواخر القرن التاسع عشر وبعد الدعوات التي طرحها مفكرو ومثقفو عصر النهضة إلى التحرر وإقامة الدولة العربية المستقلة والانفصال عن الدولة العثمانية التي حاولت طمس الشخصية العربية ومحاربة كل مقومات الأمة العربية، بلغ صلف الولاة الأتراك وظلمهم ذروته في تلك الفترة، وتفاقمت الملاحقة والقمع لكل من يقف في طريق مخططاتهم في بلاد الشام.

في بداية الحرب العالمية الأولى، ودخول السلطة العثمانية طرفاً إلى جانب محور ألمانيا وإيطاليا، اشتد الظلم والإرهاب، وبخاصة مع استلام الاتحاديين الأتراك الحكم، وتنصيب جمال باشا (السفاح) حاكماً مطلقاً على بلاد الشام وإعطائه صلاحيات واسعة جداً. وجمال باشا هو أحد كبار غلاة الاتحاديين وأكثرهم إصراراً على سفك الدماء وحبك المؤامرات.

كان جمال باشا يراقب تحركات المثقفين الوطنيين والزعماء السياسيين العرب الذين كانوا يعملون للاستقلال عن الدولة العثمانية عبر نهضة ثقافية وإحياء اللغة العربية وآدابها بعد تعرضها لسنوات طويلة من التهميش أيام الحكم العثماني، مصممين على تحرير بلادهم، فكوّنوا الجمعيات السرية والعلنية لتحقيق أهدافهم، وأصدروا الصحف السرية التي تندد بسياسة الاحتلال ووجوده، وكرد فعل على سياسة التتريك بدأ العرب مطالبتهم باللامركزية وبتعريب دوائر الدولة في الولايات العربية وبتمثيلهم في المجالس النيابية تمثيلاً صحيحاً.

وبعد فشل الحملة العسكرية العثمانية التي قادها جمال باشا السفاح على مصر عام ،1915 أعلن هذا سخطه على أهالي بلاد الشام وحمّلهم مسؤولية فشله، رغم أنهم كانوا يعيشون حالات الفقر والاضطهاد والجهل والعنصرية ويخضعون للتجنيد الإجباري.. فقد ارتكب السفاح الكثير من الانتهاكات ضد الشعب العربي في بلاد الشام.

فالسلطة العثمانية التي لم تعرف الاستقرار، شهدت فترة سيطرتها الكثير من الانتفاضات الشعبية في المدن والأرياف (ثورة دمشق عام 1798)، إذ رفض سكانها دفع الجزية للوالي، وانتفاضات اتخذت أشكال عصيان مدني كرد فعل على سياسة التتريك.

اعتقد جمال باشا السفاح أنه يستطيع أن يخمد بمشانقه الشعلة العربية المتقدة التي سطعت في دمشق وبيروت، لتدفع بقوافل الشباب العرب إلى طريق الحرية والاستقلال، وكان شهداء السادس من أيار الوقود الأولي للشعلة والملحمة الرائعة في التاريخ العربي الحديث.

اعتقل جمال باشا عدداً من المناضلين وقدمهم للديوان العرفي في (عاليه) بلبنان، فصدر الحكم عليهم بالإعدام بتاريخ 21 آب عام 1915 فكانت أول قافلة ضمت 11 شهيداً منهم عبد الحميد الزهراوي، عبد الكريم الخليل، محمد ومحمود محمصاني، فريد الخازن، علي الأرمنازي، رفيق رزق سلوم وغيرهم، وخلال الفترة التالية قُدم إلى محكمة عسكرية عرفية عدد آخر من الزعماء العرب، ووجهت إليهم تهم الخيانة وتهم الانفصال، بالدعوة إلى فصل بلاد الشام عن الدولة العثمانية، وقد أعدموا شنقاً صباح السادس من أيار عام 1916 في كل من دمشق وبيروت، وكان عددهم 21 شهيداً، ومن هؤلاء عبد الغني العريسي، رشدي الشمعة، شفيق المؤيد العظم، أحمد طيارة، جرجي حداد، وغيرهم.

ومن على منصة الإعدام ألقى الأبطال كلمات تحمل الكثير من العبر والمعاني الوطنية، وتعبر عن الشجاعة والثقة بالمستقبل، ومن الكلمات التي قيلت:

(أموت شهيداً لتحيا أمتي ولْيَحْيَ العرب).. (شُلّت يمينك يا جمال ولْيَحْيَ العرب).

هذه المجزرة ألهبت نفوس العرب لانطلاق ثورتهم الكبرى ضد السلطة العثمانية في حزيران عام ،1916 كما أحدثت جرحاً عميقاً في الضمير العربي والإنساني.

كانت عملية الإعدام محاولة لوأد النهضة العربية التي ظهرت تباشيرها الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عبر نهضة ثقافية ازدادت عمقاً، وفجرت في نفوس العرب ثورة كبيرة، امتد لهيبها ليحرق المحتل نفسه، وقد تكلل كفاحها البطولي بالتحرر من نير الاحتلال العثماني الذي استمر أربعة قرون. كانت من أحلك السنوات وأقساها في حياة الأمة العربية، وهذا ما شاهدناه يتكرر أيضاً في مقاومة الاستعمار الفرنسي عام 1920 في معركة ميسلون، وسار على درب الشهداء أيضاً أبطال المقاومة في فلسطين والجزائر ولبنان وسورية والعراق.

لم يكن السادس من أيار سوى حلقة من سلسلة تضحيات شملت التراب العربي، ومع تعاظم التحديات الإمبريالية والصهيونية ضد الشعوب المطالبة باستقلالها وسيادتها، كما يجري في فلسطين منذ عام 1948 حتى الآن، إذ تقلب المفاهيم فيصبح المدافع عن بلاده إرهابياً والمعتدي المحتل مدافعاً عن نفسه ومظلوماً.. وكما يجري في العديد من الدول العربية ضد الظلم والاستبداد وكل مظاهر الإرهاب، ومن أجل قيام دول مدنية ديمقراطية تكون الأوطان فيها سيدة نفسها وسيدة قرارها.

إن المجزرة الوحشية التي اقترفها جمال السفاح في السادس من أيار كانت بداية النهاية للحكم العثماني.

المجد والخلود لشهداء السادس من أيار الذين سقطوا في معركة الحرية، وشكلوا منارة على طريق تحرير الإنسان وتقدمه وحريته.. وتحية لكل الشهداء الأبرار الذين سقطوا على أرض هذا الوطن.

زينب نبّوه

العدد 1104 - 24/4/2024