من الصحافة العربية العدد 672

مئة عام على مذابح الأرمن… هل ما يشبهها؟

 

 قامت إستراتيجية حركة (الاتحاد والترقي) المتطرفة، التي أطاحت السلطان عبد الحميد عام ،1908 على (أن لا يبقى في السلطنة العثمانية سوى الأتراك)، وذلك بالتخلص من الأقوام المسيحية أولاً، ومن ثم العمل على تتريك الأقوام المسلمة من غير الأتراك، كالأكراد والعرب، وإذابتهم في القومية التركية. وقد شكل الدور الريادي الذي لعبه المسيحيون في انطلاق حركات التحرر القومي والوطني لشعوب بلاد الرافدين وسورية وبلاد الشام ضد الاستعمار العثماني، حافزاً إضافياً للتخلص من المسيحيين. وجد قادة هذه الحركة الطورانية في الحرب العالمية الأولى الظرف المناسب لتنفيذ خططهم ومشاريعهم العنصرية، وإحكام السيطرة العثمانية على أجزاء واسعة وحيوية من أرمينيا وبلاد الرافدين وسورية. يقول هنري مورغنطاو، (السفير الأمريكي في تركيا ما بين 1913 و1916) في كتابه (قتل أمة): (في ربيع عام ،1914 وضع الأتراك خطتهم لإبادة الشعب الأرمني. وقد دفع التعصب الديني عند الغوغاء والرعاع الأتراك ومن معهم من الأكراد لذبح معظم الأمم المسيحية التابعة لهم إلى جانب الأرمن)… منذ الأسابيع الأولى لاشتعال الحرب، باشر الجيش العثماني بعمليات القتل الجماعي للمسيحيين وترحيلهم بشكل قسري من مناطقهم التاريخية. إلى خارج الحدود. ومع تقهقر الإمبراطورية العثمانية أمام الجيوش الأوربية، قررت قيادة حركة (الاتحاد والترقي)، في 24 نيسان 1915 أن يقوم الجيش العثماني ومعه العشائر الكردية الموالية بتنفيذ عملية إبادة جماعية وسريعة لمسيحيي السلطنة.

ادّعت الدول الأوربية، التي دخلت الحرب العالمية ضد السلطنة العثمانية، حماية مسيحيي السلطنة والدفاع عن حقوقهم في مناطقهم التاريخية. لكن الحقيقة إن هذه الدول لم تكن بريئة من دماء المسيحيين الذين قضوا في المذابح على يد الجيش العثماني. إذ يبدو أن القضاء على (الأقوام المسيحية) كان من مستلزمات إسقاط الإمبراطورية العثمانية وتفكيكها وتقاسم تركتها بين الدول الأوربية، الهدف الذي دخلت من أجله الحرب. فإثر مذابح المسيحيين وتهجيرهم، وضعت الدول الكبرى الأربع (إنكلترا والولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا) في كانون الثاني من عام 1919 وثيقة جاء فيها: (نظراً لسوء إدارة الأتراك لرعاياهم من الشعوب الأخرى والمجازر الرهيبة التي ارتكبوها ضد الأرمن وضد شعوب أخرى كالسريان خلال السنوات الأخيرة، فإن الحلفاء والقوى المرتبطة بهم وافقت على وجوب اقتطاع أرمينية وسورية وبلاد ما بين النهرين وشبه الجزيرة العربية بصورة نهائية عن الإمبراطورية التركية).

قرن كامل مضى على مذابح المسيحيين التي وصفها الكثير من الباحثين والمؤرخين العالميين، بينهم أتراك، بـ(التطهير العرقي)، وهي ما زالت حية محفورة في الذاكرة التاريخية للأرمن والسريان ولعموم مسيحيي المشرق، حيث يحيون ذكراها في الرابع والعشرين من نيسان من كل عام، لتذكير العالم بها وتجديد المطالبة بالضغط على الدولة التركية، وريثة السلطنة العثمانية، وإرغامها على الاعتراف بالمذابح وتحمل مسؤولياتها القانونية والأخلاقية تجاه ضحايا المذابح. فسكوت العالم الحر على تلك الجرائم الفظيعة، سيشجع الأنظمة العنصرية والفاشية على ارتكاب مثل هذه الأعمال بحق الشعوب المستضعفة.

بفضل الجهد الدبلوماسي المكثف للجمهورية الأرمنية والنشاط الحقوقي للنخب الأرمنية في دول الشتات وتحريكهم لقضية (المذبحة) على الساحة الدولية كقضية إنسانية، نجحوا في كسب اعتراف عشرين دولة بـ(المذبحة الأرمنية)، حتى الآن منها دولة أوربية. كما نجحت الجاليات الآشورية السريانية في دول الشتات في إدراج قضية مذابح الآشوريين (سريان – كلدان) على جدول العديد من برلمانات الدول الأوربية وفي تبني برلمان مملكة السويد في آذار 2010 قراراً ينص على (أن السويد تعترف بإبادة، الأرمن والآشوريين والسريان والكلدانيين واليونان الذين كانوا مقيمين في أراضي السلطنة العثمانية) في عام 1915. بهذه الاعترافات الدولية، تكون قضية مذابح المسيحيين قد تخطت مرحلة الإثبات والتحقق من وقوعها، ودخلت مرحلة حمل تركيا وإرغامها على الاعتراف بها. وثمة اعتقاد بأن تقرب تركيا من (اسرائيل) وعقد اتفاقات أمنية وعسكرية وتجارية معها، كان يهدف أساساً إلى حث إسرائيل على استخدام نفوذها لدى الولايات المتحدة الأمريكية وإقناع إدارتها بطي ملف المذبحة الأرمنية وعدم الاعتراف بها. اشتراط دول الاتحاد الأوربي على الدولة التركية حل (المسألة الأرمنية) إلى جانب القضية القبرصية واحترام حقوق الأقليات وتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، لقبول عضويتها في الاتحاد الأوربي، أرغم حكومة (حزب العدالة والتنمية) على التراجع عن الرواية التركية الرسمية الخاصة بمذابح الأرمن والمسيحيين، وبدأت تميل إلى البحث عن تبريرات تخفف من مسؤولية الدولة التركية عن تلك المذابح. طبعاً، إخراج ملف المذابح من دائرة المحرمات لا يعني أن الحكومة التركية بزعامة (حزب العدالة والتنمية) الإسلامي قد تخلت عن محظوراتها الأيديولوجية والسياسية لمقاربة جدية وصادقة لمذابح المسيحيين، أو أنها دخلت مرحلة الاعتراف رسمياً بها. حتى التصريح الذي صدر في 23 نيسان الحالي عشية ذكرى المذبحة عن رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان والذي قدم فيه تعازيه للأرمن قائلاً: (نتمنى أن ترقد أرواح الأرمن الذين قتلوا في أحداث أوائل القرن العشرين بسلام. ونقدم التعازي لأحفادهم) – وهي المرة الأولى التي يقدم فيها مسؤول تركي تعازيه للأرمن بضحايا المذبحة – لا يعتبر تحولاً نوعياً في موقف الحكومة التركية من قضية المذبحة الأرمنية. فكلام أردوغان لم يشر إلى مسؤولية السلطنة العثمانية أو وريثتها (الدولة التركية) عن تلك المذابح. وقد جاءت تعازي أردوغان في الغالب لتجميل صورة حكومته بعدما تلطخت بدماء أرمن مدينة كسب السورية التي اجتاحتها مجموعات متطرفة قبل أسابيع بدعم ومساندة الجيش التركي. تأتي ذكرى المذابح هذا العام وسط استمرار مشاعر القلق والخوف من حصول مذابح جديدة بحق الأرمن وعموم مسيحيي سورية. هذه المخاوف تعود بشكل أساسي إلى الدور التركي الخطير في الحرب السورية ودعمها للمجموعات الإسلامية المتشددة، التي تدعو لإقامة حكم (الخلافة الإسلامية) في سورية. ويبدو أن العثمانيين الجدد في حكومة (حزب العدالة والتنمية) الإسلامية، يجدون في ظروف الحرب السورية الراهنة الفرصة التي طالما انتظروها لإخلاء الجانب السوري من الحدود من الأرمن والأكراد والسريان الآشوريين. في إطار تنفيذ هذه الأجندة التركية يندرج غزو المجموعات الإسلامية المتشدد قبل أسابيع لمدينة (كسب) الأرمنية السورية المتاخمة للحدود التركية بدعم عسكري ولوجستي واستخباري من الجيش التركي. وقبلها بنحو عام، غزت المجموعات الإسلامية ذاتها، وبدعم تركي أيضاً مدينة رأس العين السورية الحدودية وهجرت سكانها الأكراد والأرمن والسريان.

من المؤسف أن الموقف العربي والإسلامي، على المستوى الرسمي والنخبوي والشعبي، ما زال يتراوح بين النكران والتجاهل والتبرير للمذابح. فباستثناء لبنان، المتميز بنظامه السياسي وبثقل الأرمن فيه، لم تعترف حتى الآن أي من الدول العربية والإسلامية ب(المذبحة الأرمنية)، برغم إن دول الجوار لتركيا (سورية ولبنان والعراق وإيران) استقبلت آلاف المسيحيين المرحّلين قسراً والهاربين من المذابح. يأمل الكثير من الأرمن والسريان أن تبادر الحكومة السورية إلى الاعتراف بمذابح مسيحيي السلطنة العثمانية التي وقعت عام ،1915 رداً على دعم واحتضان الحكومة التركية للمعارضات السورية. لكن حتى الآن لا معطيات أو مؤشرات تدل على أن الحكومة السورية في وارد الإقدام على خطوة كهذه.

سليمان يوسف

(السفير)، 26/4/2014

 

العدد 1105 - 01/5/2024