إقامة المجتمع المدني ضرورة للتطور الديمقراطي
إن المراقب العام لمجريات الأحداث الصاخبة، التي جرت وتجري في عدد من البلدان العربية خلال السنوات الأخيرة، يتلمَّس بوضوح مقدار التراجع في مجال التكوّن المعرفي للشعوب العربية. إن أبرز الظواهر التي رافقت تلك الأحداث هي ظاهرة نفي الآخر، ظاهرة الإلغاء واعتبار أن الحقيقة المطلقة يملكها أناس مختارون دون أن ندري من الذي اختارهم لتصنيف الناس. ولكن السؤال الأساسي الذي يُطرح هو: لماذا هذا التراجع؟ وما هي الأسباب العميقة التي أدّت إلى عودة المجتمعات العربية إلى العصور الوسطى، في الوقت الذي كانت قد تميّزت فيه تلك الشعوب في مرحلة النضال من أجل التحرر الوطني بتكوّن البدايات الأولى لتشكل المجتمعات المدنية؟! ما الذي حدث لكي يجري هذا التراجع المخيف؟…. إلى الآن لم يستطع علماء السياسة والاجتماع حسب رأيي تقديم إجابات متكاملة حول هذه الأسباب!.
لقد استطاع البعض منهم أن يلامس بعض الجوانب.. واستطاع آخرون أن يتلمسوا جوانب أخرى.. بيد أن الإحاطة الشاملة بالأسباب الحقيقية لهذا التراجع المجتمعي لم تتم إلى وقتنا الحاضر.
هناك من يقول: إن الأسباب الحقيقية لهذا التراجع تعود، بالدرجة الأولى، إلى أن قادة حركة التحرر الوطني في البلاد العربية، لم يستطيعوا إنجاز مهام الثورة الوطنية كاملاً، ولم يقدّروا تقديراً صائباً دور الحريات السياسية في إجراء تطوير شامل في تلك البلدان. ويميل اتجاه آخر إلى القول: إن أسباب هذا التأخّر تعود إلى الفشل الذريع الذي مني به قادة حركة التحرر، خصوصاً فيما يتعلق بإحداث تغييرات بنيوية جدّية في المجتمع العربي تؤدي إلى إحداث تطور نوعي في البنية الاجتماعية لهذه البلدان التي اتّسمت، سابقاً، بسيطرة العلاقات الزراعية المتخلفة التي شكّلت عائقاً جدّياً أمام تطور هذه البلدان في مختلف المجالات.
ويقول اتجاه آخر: إن الأسباب العميقة لعدم قيام مجتمعات مدنية، يعود، أولاً، إلى فشل قادة حركة التحرر الوطني في إحداث نهضة اقتصادية اجتماعية، مما أدى إلى ظهور أدوار جديدة لفئات اجتماعية جديدة نامية استطاعت أن تزيح هؤلاء القادة!.. وانعكس ذلك بوضوح في سلسلة الانقلابات التي جرت في عدد من البلدان العربية المفتاحية في المنطقة.. وإن مجيء الجيش إلى السلطة، وإقامة أنظمة شمولية في عدد من البلدان العربية، شكّل عائقاً جدياً أمام تكوّن المجتمع المدني. وإذا تتبّعنا الأحداث بدقّة، يمكن التأكيد حسب ما أعتقد أن مجمل هذه الآراء تصب، جميعها، في تحليل هذه الظاهرة، ظاهرة التراجع المجتمعي والمعرفي، لدى الشعوب العربية بصورة عامة، والذي انعكس، بوضوح شديد، في الصراع السياسي الضاري الذي جرى، وما يزال يجري، في عدد من البلدان العربية هذا السلوك الإلغائي الذي يعود بجذوره إلى الماضي القديم حين كانت تسيطرالسلطات المطلقة. بيد أننا، إضافة إلى ما قيل، يمكن أن نؤكد الحقيقة التالية، التي يكمن محتواها أن شروط تكوّن الدول في تلك البلدان، لمّا تُستكمل بعد، وإن أحد أهم شرط للسير نحو بناء مجتمع مدني فيها، هو استكمال مقومات يناء الدولة.
في البدان العربية توجد سلطات حاكمة، ولكن لا توجد دول مستكملة لشروطها.. فالحاكم في هذه البلدان كلّيّ القدرة ولا ينطق إلا عن حق، والشعب هو مجموعة رعايا له!. وفي هذا الوسط تنمو وتترعرع الانتهازية، وتُقمع الأفكار النيّرة، وتتشخصن الحياة السياسية، وتنمو الغرائز، وتختفي الموضوعية!…… إن المهمة الأساسية أمام جميع القوى الصحية في المجتمع العربي، تكمن في استكمال مهام بناء الدولة، لأن الطريق نحو المجتمع المدني يمر عبر ذلك، كما أرى.
إن فكرة الدولة قد اقترنت في الماضي القديم بالسلطة ولم يكن هناك تمييز بين الدولة وبينها، وقد أدى ذلك، في كثير من الأحيان، إلى ارتكابات واسعة. لقد بدأ الافتراق بين السلطة والدولة مع الثورة البرجوازية، وأخذ يتعزز أكثر فأكثر مع التطور الحضاري للبشرية.. السلطة يمكن أن تأتي وتذهب بينما تبقى الدولة في مؤسساتها وأدواتها، وبالتالي فهي الضامن الوحيد لوجود المجتمع المدني، ودون تحقيقه فإن الحديث عنه يبقى في باب التمنيات فقط.
من هنا إذا كان الخلط بين هذين المفهومين من حيث الجوهر، له ما يبرره في السابق. إلا أن التطور الذي جرى في العالم الآن، كما أشرنا، وتمايز ملامح انفصال هذين المفهومين أحدهما عن الآخر، يجب أن يؤدي إلى تصحيح هذا الوضع، لأن استمرار الخلط بينهما لن يخدم عملية إنضاج المشروع الديمقراطي للقوى التقدمية ولشعوب هذه المنطقة التي لها مصلحة عميقة في إعادة السير باتجاه تشكل المجتمع المدني الذي يضمن المساواة الحقيقية في المواطنة.