من الصحافة العربية العدد 699

سورية: التصعيد الدموي يسبق التفاهم على حدود المصالح

الاتفاق النووي بين إيران والدول الست (الغرب)، لم يَرُق لإسرائيل والسعودية ودول الخليج، إذ أن هذه الدول تعتبر الخطر الإيراني الذي يهددها ما زال قائماً، فحلفاء أمريكا في المنطقة أرادوا منها أن تدمّر إيران كما دمرت العراق وذلك لضمان إبعاد (شر إيران عنها) عقوداً من زمن المستقبل، لكن حسابات الولايات المتحدة اختلفت عن حسابات حلفائها في المنطقة.

فهي من ناحية تأخذ بالحسبان أن لإيران حلفاء أقوياء يشكلون قطباً عالمياً منافساً لها ورافضاً رفضاً مطلقاً لتفردها باتخاذ القرار على صعيد العالم ومنه منطقة الشرق الأوسط. ومن ناحية ثانية تسعى الولايات المتحدة، بعد الاتفاق وعبره، إلى ضمان مصالحها مع إيران ذات الثروات الهائلة والتي تشكل (أو قد تشكل) سوقاً أكبر بكثير من أسواق الجزيرة العربية والخليج.

وضمان مصالحها في إيران ومع إيران يعني بالضرورة عدم ترك المجال مفتوحاً على مصراعيه للدول الأوربية لتجني ثمار الاتفاق النووي وحدها. ولقد حاولت الولايات المتحدة أن ترضي حلفاءها خصوصاً إسرائيل، في محاولات حثيثة ومستمرة لإدراج شؤون استراتيجية أخرى تمس قضايا حساسة في الشرق الأوسط.

لكن إيران رفضت بحزم إدراج أي موضوع على جدول الأعمال إلى جانب الملف النووي. وكانت القضية الاستراتيجية الأهم تتصل بتنازل إيران عن موقفها الرافض للدولة الصهيونية التي أقامها الغرب على أرض فلسطين.

ومن الملفات الشرق الأوسطية التي حاولت الولايات المتحدة وأوربا بحثها مع إيران ملف سورية ودعم إيران للنظام في سورية ولجيش سورية العربي. وفشلت هنا بسبب الرفض الإيراني الحازم. ولم يتردد الأمريكيون والأوربيون في طرح ملف حزب الله ودعم إيران له وفشلوا هنا أيضاً بسبب الرفض الإيراني الحازم.

وعندما أدركت الولايات المتحدة عبثية الضغط لفتح هذه الملفات، ركزت على التشدد في شروط الغرب ومطالبه في الملف النووي، وجرى الاتفاق بعد أن تعاملت إيران مع مطالب الغرب بمرونة ودبلوماسية عالية المستوى.

واضطر الرئيس أوباما إلى أن يشير علناً إلى فشل إدراج الملفات الأخرى على جدول الأعمال حين قال: (إن اتفاقنا حول الملف النووي لا يلغي خلافنا الحاد حول مجموعة مهمة من القضايا في الشرق الأوسط، وتدخل إيران في الشؤون الإقليمية للشرق الأوسط)! وانتقل الثقل إلى الملف السوري بعد أن أُنجز وأُقرّ الاتفاق النووي مع إيران.

الجدير هنا أن نُبقي في الذهن أن نجاح المفاوضات الإيرانية الغربية حول الملف النووي ما كان لينجز لو لم تشارك موسكو عند أكثر من منحنى، في طريق المفاوضات في تذليل بعض الصعوبات التي كانت تبرز، وحلّ بعض التناقضات التي كادت أن تُفشل المفاوضات.

وسارعت روسيا إلى الإمساك بزمام الأمور في الملف السوري. وشكلت حلفاً لمواجهة التحالف الذي يعمل على تفتيت سورية وتدمير الجيش العربي السوري والنظام في سورية.

جدول أعمال (فيينا) يجب أن يشمل على نحو أساسي تطبيق القرار 242

واتخذت القرار التاريخي بدعم سورية عسكرياً في وجه التحالف الذي يستهدف وحدة سورية أرضاً وشعباً. فقد عززت موسكو قاعدتها الارتكازية الرئيسية في ميناء طرطوس، تعزيزاً نوعياً قبل أن تعلن إرسال طائرات السوخوي لقصف أهداف محددة للإرهابيين ومراكزهم الحصينة في المحافظات السورية.

ولا أعتقد أنني أكشف سراً إذ قلت إن سلاح الجو السوري تسلّم سرباً من الطائرات الروسية لتعزيز قدراته، وإن طرطوس شهدت موضعه لصواريخ دفاعية روسية لمواجهة الصواريخ الباليستية.

ولا شك أن إسقاط صاروخي كروز فوق البحر المتوسط كانا قد أُطلقا من قاعدة أمريكية في جنوب إيطاليا وقاعدة أمريكية في إسبانيا شكّل رسالة مهمة للولايات المتحدة حتى لا تتفادى لأن (المصالح السورية والأمن السوري هي بموازاة المصالح الروسية والأمن السوري).

وبهذا وصلت الرسالة واضحة من الكرملين إلى البيت الأبيض. وأخطرت واشنطن مرة أخرى لإعادة الحسابات. فما يريده حلفاؤها في المنطقة من الحرب الإرهابية الدموية على الأرض السورية لم يعد ممكناً (ونقصد هنا ما يريده حلفها الإسرائيلي التركي السعودي). فإسرائيل التي أعدت الدراسات للحرب الإرهابية على سورية لتفتيتها أرضاً وشعباً تريد استمرار التصعيد لأن هذا يتيح المجال لها بابتلاع الضفة الغربية وشطب قضية فلسطين.

أما السعودية وقطر وتركيا فقد أرادت استمرار التصعيد الدموي والتدمير المنهجي لسورية في إقامة خلافه إسلامية تتنافس على قيادتها تركيا والسعودية. بينما قطر تصفّق لانغماس السعودية أكثر فأكثر في المستنقع الدموي لينهار حكم الوهابيين في الجزيرة.

وينهار النظام في سورية وتتمكن هي بإدارة الأمور عبر تركيا التي يخضع نظامها لأموال قطر. استوعبت واشنطن أن وضعاً جديداً قد جرى تحقيقه على أرض المعركة. فبعد المعارك الطاحنة التي طرد الإرهابيون على إثرها من القلمون بدأت معركة سورية عامة ضد الإرهابيين والمحركين لهم في كل المواقع بإسناد من سورية.

فتراجعت سياسياً لالتقاط الأنفاس تهيئة لإعادة ترتيب أوراقها وإعادة تنظيم صفوف المقاتلين الإرهابيين ضد الجيش العربي السوري. وسعت إلى عقد اجتماع سريع ضم حلفاءها (تركيا والسعودية) وروسيا التي رمت بثقلها في المعركة. وأُعلن التوجه لعقد اجتماع يضم أطرافاً معنية بالصراع الدائر على الأرض السورية، وبدأ صراع دموي مفتوح على الأرض السورية بين الجيش العربي السوري والمنظمات الإرهابية، لحسم المعارك بدعم وإسناد من الطيران الحربي الروسي.

وأعادت الولايات المتحدة ترتيب أوراقها بعد الفشل الذريع الذي منيت به عندما حاولت إنشاء قوة خاصة دربت وسلحت في الأراضي التركية وأدخلت إلى الأراضي السورية. وراحت الولايات المتحدة تلوّح باستخدام القوة تصعيدياً وعبّر عن ذلك وزير الدفاع الأمريكي كارتر بقوله: (نحث قوى المعارضة على محاربة النظام السوري والجيش السوري ونؤكد لها دعم الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة وعلى رأسهم إسرائيل). قد يكون ذكر كارتر لإسرائيل زلة لسان! ولكن نعتقد أنه غني أن بذكر إسرائيل من بين الحلفاء الذين يدعمون داعش والنصرة قوى معارضة تعتمدها الولايات المتحدة. وذلك ليبرّر لاحقاً زجّ اسم إسرائيل في مفاوضات الحل السياسي التي سيتابع العمل لتحقيقه في مؤتمر فيينا. إن الولايات المتحدة استناداً لتقديرها لميزان القوى وللوقوف الذي يلزمها العمل على منع انهيار (داعش) بسرعة، قدمت ما يمكن أن نطلق عليه تعبير (تنازلات واقعية)، وأقنعت حلفاءها بضرورة ذلك، وأهم هذه التنازلات:

1- الإقرار بوحدة الأرض السورية (أي نشطب مشروع تقسيم سورية السابق).

2 الإقرار بضرورة وجود بشار الأسد في مرحلة الحل الأولي (أي التراجع عن شرط رفض وجوده في أي حل سياسي، كما كانت تشترط هي وحلفاؤها سابقاً).

لكن خطط البنتاغون في جوهرها ليست هي الخطط التي تعلنها، فقبولها في الحل السياسي، وهو موقفها المعلن، لا يعني أنها تقر وتقبل بأن يفرض هذا الحل ميزان القوى القائم والآيل للميلان أكثر فأكثر لصالح الجيش العربي السوري.

فقد خططت للعمل بكل ما أوتيت هي وحلفاؤها من قوة لتعديل الميزان بحيث يُعقد المؤتمر الثاني لفيينا بشكل يرجح كفتها وليس كفة سورية وحليفها القوي بوتين.

وخططت الولايات المتحدة ليكون مؤتمر فيينا مؤتمراً إقليمياً، حاولت من خلاله إلغاء نتائج مؤتمر مدريد حول الشرق الأوسط وتعديل نتائجه ليتلاءم المؤتمر الجديد ونتائجه مع أطماع إسرائيل التوسعية وانتزاع اعتراف عربي بذلك.

وستحاول أن تُكره سورية على الموافقة على النتائج التي تريدها إسرائيل جزءاً من صفقة فيينا الشرق أوسطية. ترمي الولايات المتحدة بثقل عسكري متصاعد تدريجياً، واتفقت مع تركيا وإسرائيل والبرزاني على خطوات تصعيدية لاحقة ستبدو في ظاهرها مضادة لداعش لكنها في الواقع ستكون ضد الجيش العربي السوري والشعب السوري، ولا تخدم سوى الولايات المتحدة وأغراضها وأغراض حلفائها وعلى رأسهم إسرائيل.

وستستخدم كل الضربات الممكنة دون الحزام (أو تحت الحزام) للضغط على روسيا التي لن تخشى من تلك الضربات ولن تتراجع عن دعم سورية عسكرياً.

(من الأمثلة على ذلك تفجير الطائرة فوق سيناء سواء كان ذلك فعلياً أم إعلامياً وسياسياً، وكذلك إرسال قوات خاصة إلى سورية).

نستطيع أن نرى بوضوح أن ما قصده وعناه وزير الدفاع الأمريكي كارتر بقوله إن الولايات المتحدة سترد على أي عدوان موجه من روسيا واستباقاً، لاكتشاف مشاركة الولايات المتحدة في الاعتداء على السوريين وجيشهم العربي.

فهو تهديد واضح وليس مبطناً لروسيا ولذلك نتوقع بجدية أن يعلن عن وجود صواريخ S300 في الخدمة بيد الجيش العربي السوري، ونتوقع تسليم سلاح الجو طائرات جديدة أفضل من التي مازال يستخدمها حتى الآن.

الخطوات التي تتخذها الولايات المتحدة وتلك التي تضغط حتى يتخذها الحلفاء الأوربيون (كما فعل هولاند وستفعل بريطانيا سراً)، تستهدف تعديل ميزان القوى بحيث تحمي داعش في العراق وتجبر الأطراف على تحويل مؤتمر فيينا إلى مؤتمر إقليمي وليس مؤتمراً لحل أزمة الصراع الدائر على الأرض السورية.

مرة أخرى تسعى الإدارة الأمريكية بإملاء من الحركة الصهيونية إلى تحقيق ما يحلم به نتنياهو، وهو وعد بلفور جديد أي إسرائيل الكبرى من البحر للنهر وشطب قضية فلسطين. أي تحقيق الهدف الذي من أجله دمرت العراق وسورية وقتل مئات الآلاف وما زال النزف مستمراً.

إذا لخّصنا بكلمات قليلة تعريف الوضع الراهن، نقول إن هنالك على الأرض السورية معارك تحتدم بين معسكر الاستعمار الجديد وحلفائه الإقليميين والمحليين ومعسكر مقاومة الاستعمار ومخططاته الذي يستند أساساً إلى القوى الوطنية والقومية الحية والملتزمة بالنضال، لدحر الاستعمار الجديد وحلفه ومخططات هذا الحلف وهذه القوى أصبحت بشكل علني وواضح مدعومة من روسيا وحلفاء روسيا على الجبهة العالمية.

والوجه الآخر لهذه المعارك هو وجه المعركة لإنهاء انفراد الولايات المتحدة بتقرير مصير العالم مدعومة من حلفائها في حلف الأطلسي الذين يجنون أرباحاً طائلة من سرقة الشعوب ونهب ثرواتها.

وقررت الولايات المتحدة أن ترمي بكل ثقلها لمنع روسيا من تحقيق التوازن في الشرق الأوسط. وأعلن أوباما التزام بلاده المطلق بأمن إسرائيل، وهي التي تهدد أمن كل دول المنطقة وترتكب الجرائم البشعة ضد الشعب الفلسطيني، وفي الوقت ذاته تحاول خداع الرأي العام الأمريكي والعالمي والإقليمي بإعلان دعمها لإيجاد حل سياسي للأزمة. نعم هي تريد حلاً سياسياً لكن على القياس الأمريكي.

والمهم هنا أن تحدد قوى المقاومة الحل السياسي الذي تسعى إليه، وأن تضع جدول أعمال لمؤتمرات فيينا يتناسب مع هدف ضرب الإرهاب: تنظيمات أو حكومات.

خوض المعركة والانتصار فيها سيكون أساس الحل لذلك: تماماً كما شرح وزير دفاع الولايات المتحدة وحدّد إسرائيل طرفاً من الأطراف معسكر العدوان على سورية، فإننا نشرح ونحدد المقاومة الفلسطينية طرفاً مقاوماً للإرهاب وتحديداً إرهاب إسرائيل – دولة الاحتلال التوسعية والعنصرية.

جدول أعمال (فيينا) يجب أن يشمل بشكل أساسي تطبيق قرار 242.

يبقى أن نقول أن أي حل سياسي لا يمكن أن يكون حلاً مستديماً ما لم يكن قائماً على العدل ومستنداً بحق الشعوب في تقرير المصير والحرية والاستقلال والديمقراطية، لذلك لا يمكن لأي حل في الشرق الأوسط أن ينجز وأن يستديم ما لم يقضَ كلياً شرطاً مسبقاً على الإرهاب، بمصدريه العصابي والحكومي، والمثل على ذلك في منطقتنا واضح ما لم يقضَ على داعش وحلفائه والاحتلال الدموي الإسرائيلي.

الأخبار20/11/2015

العدد 1105 - 01/5/2024